شرح حديث: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)
النص الكامل للحديث
عن عائشة أم المؤمنين أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الجَنَّةَ، وَأَنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ)، وفي رواية أخرى للحديث: عن عائشة أم المؤمنين أنَّها قالت: (سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ. وَقَالَ: اكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ).
الشرح التحليلي للحديث
أبرز أقوال العلماء في شرح المفردات والتراكيب للحديث بروايتيه كما يأتي:
(سَدِّدُوا وَقَارِبُوا)
السدادُ هو حقيقةُ الاستقامة ، وهو يعني: الإصابةُ في جميع الأقوالِ والأعمال والمقاصد، كالذي يرمي بسهمه إلى الهدف، فيُصيبه، بينما المقاربة: هي أنْ يُصيبَ ما قَرُبَ مِنَ الهدف إذا لم يُصِبِ سهمه الهدف نفسَه، ولكن بشرط: أنْ يكونَ مصمِّماً على قصد السَّداد وإصابة الهدف بدقة، فتكون مقاربتُه للهدف وعدم إصابته له معذوراً فيها لأنها عن غير عمدٍ.
(لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الجَنَّةَ)
لا يعني من ذلك أنه لا فائدة للعمل، بل يعني أنَّ العمل الصالح لا ينفع صاحبه إلا إذا تقبله الله منه، والعبد لا يعمل عملاً صالحاً إلا إذا وفَّقه الله إليه وأعانه عليه، فلمَّا كان العمل الصالح -الذي هو سبب دخول الجنة- لا ينفع إلا إذا تقبله الله -ولو شاء لم يتقبله-، ولا ينفع إلا إذا وَفّق الله العبدَ إليه -ولو شاء لم يوفّقه إليه-، صار كل شيءٍ بفضل من الله -تعالى- ورحمته.
(أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ)
وهذا واقعي؛ لأن الاستمرار على طاعة الله أسهل سبيل يسهِّل الطريق إلى طاعةٍ مثلها، وإن الاستمرار على العمل السهل يجعل المكلّف قادراً على الوصول إلى الصعب، ثم الوصول إلى الأصعب، وهكذا حتى يصل إلى أعلى درجات العمل الذي يطيقه، فيكون ما يظنّه عملاً شاقاً -بعد هذه الخطوات المتدرجة- أمراً مستطاعاً، فالتدرّج سنة الله في كونه.
(اكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ)
هذه الوصية تدل على شفقته -صلى الله عليه وسلم-، ورفقه بأمته وحثّهم على التوسط؛ حيث أرشدهم إلى الاعتدال؛ بالتمسك مِن الأعمال بما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة ولا مزاحمة لعملٍ آخر؛ فتتمّ العبادة كما يحبها الله، "بخلاف من تعاطى مِن الأعمال ما يشقّ عليه، فإنه بصدد أن يتركه أو بعضه، أو يفعله بكُلفة، وبغير انشراح القلب، فيفوته خير عظيم".
التوازن بين التعمُّق المتشدد في العبادة والتقصير فيها
لا يعني الحديث الشريف: (وَأَنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ)؛ أن العمل النشط الدؤوب أقل أجراً من العمل الصالح السهل، بل إن العمل النشِط كالمواظبة على صلاة الفجر مثلاً إذا كان أدومها وكان كثيراً فهو الأفضل من التقصير في أداء صلاة الفجر ، لكن الحديث يقابل بين شخصٍ خيِّر وبين كثير منقطع وقليل دائم، فأيهما الأفضل؟ فالقليل الدائم هو الأفضل له في تلك الحالة.
كما أنَّ السياق التاريخي لسبب ورود هذا الحديث الشريف مهم لفهمه، فقد كان جيل الصحابة -رضي الله عنهم- على درجة عالية من الهمة والنشاط، وتلك الهمة اقتضت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يدعوهم في كثيرٍ من المواقف إلى تهذيب سَورة هذا النشاط الزائد، قائلاً لهم: (اكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ)؛ من أجل أن يحثّهم على العودة إلى المستوى المطلوب من الوسطيّة والقصد والاعتدال والتوازن.
ولننظر مثلاً إلى همّة عبد الله بن عمرو في العبادة أثناء شبابه، وذلك حين سأله النبي: (كيفَ تَصُومُ؟ قالَ: كُلَّ يَومٍ، قالَ: وكيفَ تَخْتِمُ؟ قالَ: كُلَّ لَيْلَةٍ، قالَ: صُمْ في كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةً، واقْرَأِ القُرْآنَ في كُلِّ شَهْرٍ، قالَ: قُلتُ: أُطِيقُ أكْثَرَ مِن ذلكَ، قالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ في الجُمُعَةِ، قُلتُ: أُطِيقُ أكْثَرَ مِن ذلكَ، قالَ: أفْطِرْ يَومَيْنِ وصُمْ يَوْمًا، قالَ: قُلتُ: أُطِيقُ أكْثَرَ مِن ذلكَ، قالَ: صُمْ أفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ: صِيَامَ يَومٍ، وإفْطَارَ يَومٍ، واقْرَأْ في كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً).
لكن عبدالله ندم بعد أن كبرت سنه، حيث قال: (فَلَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ وذَاكَ أنِّي كَبِرْتُ وضَعُفْتُ، فَكانَ يَقْرَأُ علَى بَعْضِ أهْلِهِ السُّبْعَ مِنَ القُرْآنِ بالنَّهَارِ، والذي يَقْرَؤُهُ يَعْرِضُهُ مِنَ النَّهَارِ؛ لِيَكونَ أخَفَّ عليه باللَّيْلِ، وإذَا أرَادَ أنْ يَتَقَوَّى أفْطَرَ أيَّامًا وأَحْصَى، وصَامَ مِثْلَهُنَّ كَرَاهيةَ أنْ يَتْرُكَ شيئًا فَارَقَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليه).