شرح المقامة البغدادية
شرح نص المقامة البغدادية
كاتب المقامة البغدادية هو بديع الزمان الهمذاني واسمه هو (أحمد بن الحسين) وكنيته أبو الفضل ويُلقّب بـ "بديع الزمان"، أمّا نسبه فيعود إلى بلدة همذان في إيران؛ حيث ولد عام 358 هجرية، حيث عاش بديع الزمان الهمذاني في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري في بغداد في أثناء حكم الدولة العباسية.
وقد شهدت هذه الفترة ظهور الكثير من الألوان البديعية في الكتابة والأدب بشكل عام، ولكنه عصر لم يخلُ من الاضطرابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أثرت بشكل مباشر على تلك الكتابات والفنون الأدبية، أمّا سبب كتابته لهذه المقامة فهو للحصول على المال، فقد كان يسترزق من موهبته الكبيرة في الكتابة.
للوقوف على ما جاء في هذه المقامة نورد نص المقامة متبوع بشرح مفصل: "حَدَّثَنَا عِيَسى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: اشْتَهَيْتُ الأَزَاذَ، وأَنَا بِبَغْدَاذَ، وَلَيِسَ مَعْي عَقْدٌ عَلى نَقْدٍ، فَخَرْجْتُ أَنْتَهِزُ مَحَالَّهُ حَتَّى أَحَلَّنِي الكَرْخَ، فَإِذَا أَنَا بِسَوادِيٍّ يَسُوقُ بِالجَهْدِ حِمِارَهُ، وَيُطَرِّفُ بِالعَقْدِ إِزَارَهُ، فَقُلْتُ: ظَفِرْنَا وَاللهِ بِصَيْدٍ، وَحَيَّاكَ اللهُ أَبَا زَيْدٍ، مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ وَأَيْنَ نَزَلْتَ؟ وَمَتَى وَافَيْتَ؟ وَهَلُمَّ إِلَى البَيْتِ، فَقَالَ السَّوادِيُّ: لَسْتُ بِأَبِي زَيْدٍ، وَلَكِنِّي أَبْو عُبَيْدٍ".
بماذا تبدأ أحداث المقامة البغدادية؟
تبدأ أحداث المقامة البغدادية بقول الهمذاني (حدّثنا عيسى ابن هشام قال) فالرّاوي هنا عيسى ابن هشام، وهو الذي يروي للناس قصّةً حدثت في سوق من أسواق مدينة بغداد في جانب الكرخ؛ حيث كان يتضور جوعًا ولم يكن يملك المال ليأكل، ويبدو أنّ أحداث هذه القصة تدور حول حدث رئيس وهو رغبة الراوي في الحصول على الطعام.
أما الحدث الفرعي فهو التقاء عيسى بشخص هو السوادي الذي يبدو عليه الكثير من الطيبة فأراد أن يُمارس عليه بعض الألاعيب والحيل فبادر بأخباره بمعرفته بأبيه على الرغم من أنه لا يعرفه وليس له به صلة.
"فَقُلْتُ: هَلُمَّ إِلى البَيْتِ نُصِبْ غَدَاءً، أَوْ إِلَى السُّوقِ نَشْتَرِ شِواءً، وَالسُّوقُ أَقْرَبُ، وَطَعَامُهُ أَطْيَبُ، فَاسْتَفَزَّتْهُ حُمَةُ القَرَمِ، وَعَطَفَتْهُ عَاطِفُةُ اللَّقَمِ، وَطَمِعَ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ، ثُمَّ أَتَيْنَا شَوَّاءً يَتَقَاطَرُ شِوَاؤُهُ عَرَقًا، وَتَتَسَايَلُ جُواذِبَاتُهُ مَرَقًا، فَقُلْتُ: أفرز لأَبِي زَيْدٍ مِنْ هَذا الشِّواءِ، ثُمَّ زِنْ لَهُ مِنْ تِلْكَ الحَلْواءِ، واخْتَرْ لَهُ مِنْ تِلْكَ الأَطْباقِ، وانْضِدْ عَلَيْهَا أَوْرَاقَ الرُّقَاقِ".
كيف تظاهر المخادع عيسى ابن هشام؟
ثم يتظاهر المخادع عيسى ابن هشام بأنّه شخص كريم ويدعو السوداي إلى وليمة غداء، ويقترح عليه أن تكون تلك الوليمة في السوق لأنه أقرب من بيته، فيصدق السوادي كلام عيسى ويذهب معه فيطلب الأخير إعداد وليمة فيها ما لذّ وطاب، ثم طلب نوعًا من الحلوى الفاخرة، وكل هذا والسوادي حسن الظن بذلك المدعو عيسى وبكرمه الكبير.
قَالَ: فَوَزَنَهُ ثُمَّ قَعَدَ وَقَعدْتُ، وَجَرَّدَ وَجَرَّدْتُ، حَتىَّ اسْتَوْفَيْنَاهُ، ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَبَا زَيْدٍ مَا أَحْوَجَنَا إِلَى مَاءٍ يُشَعْشِعُ بِالثَّلْجِ، لِيَقْمَعَ هَذِهِ الصَّارَّةَ، وَيَفْثأَ هذِهِ اللُّقَمَ الحَارَّةَ، اجْلِسْ يَا أَبَا َزيْدٍ حَتَّى نأْتِيكَ بِسَقَّاءٍ، يَأْتِيكَ بِشَرْبةِ ماءٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ وَجَلَسْتُ بِحَيْثُ أَرَاهُ ولاَ يَرَانِي أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ، فَلَمَّا أَبْطَأتُ عَلَيْهِ قَامَ السَّوادِيُّ إِلَى حِمَارِهِ، فَاعْتَلَقَ الشَّوَّاءُ بِإِزَارِهِ.
وَقَالَ: أَيْنَ ثَمَنُ ما أَكَلْتَ؟ فَقَالَ: أَبُو زَيْدٍ: أَكَلْتُهُ ضَيْفًا، فَلَكَمَهُ لَكْمَةً، وَثَنَّى عَلَيْهِ بِلَطْمَةٍ، ثُمَّ قَالَ الشَّوَّاءُ: هَاكَ، وَمَتَى دَعَوْنَاكَ؟ زِنْ يَا أَخَا القِحَةِ عِشْرِينَ، فَجَعَلَ السَّوَادِيُّ يَبْكِي وَيَحُلُّ عُقَدَهُ بِأَسْنَانِهِ وَيَقُولُ: كَمْ قُلْتُ لِذَاكَ القُرَيْدِ، أَنَا أَبُو عُبَيْدٍ، وَهْوَ يَقُولُ: أَنْتَ أَبُو زَيْدٍ.
ما الحجة الذكية التي فكر فيها عيسى؟
ما إن وضع الشواء الطعام حتى بدأ عيسى والسوادي بالأكل، وبعد أن فرغا فكّر عيسى بحجة ذكية لكي يفر ولا يدفع للشواء ثمن الطعام فأخبر السوادي أنه يذهب ليأتيه بماء بارد بعد هذا الأكل اللذيذ، وبالفعل صدّقه السوادي فأسرع عيسى في الاختباء في مكان يمكن له أن يرى السوادي أمّا الأخير فلا يراه.
ولما كان يهم السوادي بالرحيل طالبه الشواء بثمن الطعام فأخبره أنه كان ضيفًا فبادره صاحب الحانوت بالصراخ والضرب وأجبره على دفع المال، فأخذ يبكي ويندب حظه العاثر الذي أوقعه ضحية للمكر والخداع.
"فَأَنْشَدْتُ:
أَعْمِلْ لِرِزْقِكَ كُلَّ آلهْ
لاَ تَقْعُدَنَّ بِكُلِّ حَالَهْ
وَانْهَضْ بِكُلِّ عَظِـيَمةٍ
فَالمَرْءُ يَعْجِزُ لاَ محالة
هذه الصورة الأخيرة للمقامة؛ حيث ينشد المخادع عيسى ابن هشام أبياتًا من الشعر تُشير إلى انتصاره على ذلك الإنسان البسيط الحسن الظن السوادي متبجحًا بتلك الطرق السيئة التي يستخدمها في الحصول على المال والطعام، وهذا الأمر إن دل على شيء فإنه يدل على انهيار بعض القيم المجتمعية.
معاني مفردات المقامة البغدادية
وردت في المقامة البغدادية العديد من الكلمات والألفاظ الغامضة، وكان لا بد لنا من إيراد معناها والمقصود بها، وهي على النحو التالي:
المفردة | معنى المفردة |
الأزاذ | نوع جيد من التمر. |
الكرخ | محلة في مدينة بغداد. |
دِمْنَتِهِ | طَلَل؛ ما تبقَّى من آثار الناس أو الديار. |
حُمَةُ | الحُمَّى، ارتفاع حرارة الجسم. |
القَرَمِ | قرَمَ الطعامَ، أَكله. |
الشَّوّاءُ | محترف الشِّواء، من يشوي لحومًا وغيرها ليبيعَها. |
اللُّوزِينج | من الحَلْوى: شِبه القطائف يُؤْدَم بدُهن اللَّوز. |
يُشَعْشِعُ الشراب | مزجه بقليل من الماء. |
الصَّارَّةَ | الحاجة. |
شخصيات المقامة البغدادية
تضمّنت المقامة البغدادية لبديع الزمان الهمذاني نوعين من الشخصيات وهم:
الشخصيات الرئيسة
وهي الشخصيات التي لعبت دورًا مهمًّا في أحداث المقامة فقامت هذه الأخيرة عليهم بالأساس وهم كل من:
- عيسى ابن هشام
وهو بطل المقامة الذي مثّل الجانب السيء منها، كذلك هو شخص فصيح اللسان سريع البديهة، ولكنه صاحب حيلة ومكر كان يتمشى في منطقة الكرخ إحدى مناطق بغداد وقام الاحتيال على شخص بسيط من الأعراب وجده في السوق يدعى السوادي.
- السوادي
وهي الشخصية الرئيسة الثانية في المقامة، والذي كان يمثل دور الضحية التي اصطادها عيسى ابن هشام ليوقعها في شباكه، كما كانت هذه الشخصية تحمل الكثير من الصفات السيئة مثل: الغباء، والطمع، والجشع.
- الشخصيات الثانوية
وهي شخصيات ثانوية في المقامة، ولكن كان لها دور وسبب في وجودها ضمن الأحداث التي وقعت وهم كل من:
- الشواء
شخصية ثانوية في المقامة، ولكنه كان له دور فاعل فيها؛ إذ مثّل جانب المعاقب الذي تولّى عقاب السوادي وأجبره على دفع ثمن الطعام الذي أكله هو المخادع عيسى.
- السقاء
وهو بائع الماء الذي يسقي الناس الماء في ذلك الزمان، وهي شخصية ثانوية ذُكرت بشكل عرضيّ ولم تكن فاعلة في النص، إنما كانت الحجة التي استخدمها المخادع عيسى للفرار من الموقف مع السوادي.
خصائص المقامة البغدادية
تتميز المقامة البغدادية بالعديد من الخصائص لا سيما فيما يتعلق بالمضمون أو الموضع الذي قامت على أساسه وفيما يتعلق بالشكل الذي تميزت به المقامة وعلى النحو التالي:
- من حيث المضمون
إنّ النصوص الأدبية لا تخلو من الإشارة إلى الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية السائدة حينها، والمقامة البغدادية كانت سجلًا حافلًا عن أحوال المجتمع ومظاهر الحياة، وأوردت الكثير من الصور التي كانت عليها حياة العامة.
- من حيث الشكل
جاءت المقامة لتُحقّق نوعين من الأهداف أولهما: المتعة، وقد تجسّدت بشكل واضح من خلال السرد القصصي الخيالي لأحداث المقامة وشخصياتها، وصولًا للحبكة التي فيها تتصاعد الأحداث حتى تبلغ ذروتها.
الصور البلاغية في المقامة البغدادية
أورد الهمذان الكثير من الصور البلاغية في المقامة البغدادية ومن هذه الصور ما يلي:
- الشاهد: فَقُلْتُ: ظَفِرْنَا وَاللهِ بِصَيْدٍ
في هذه الصورة يصور عيسى ابن هشام ذلك الأعرابي السوادي بالصيد الذي ظفر به أخيرًا، فيها سجع مقبول يدلّ على متانة التركيب، وبعيد عن التكرار.
- الشاهد: يَذُوبُ كَالصَّمْغِ، قَبْلَ المَضْغِ
في هذه الصورة يورد الهمذاني على لسان عيسى ابن هشام حلوى اللوزينج في حلاوتها وكأنّها صمغ يذوب في الفم قبل الأكل، فيُبدع في وصفها وفي استخدام السجع، فيوفق بشكل كبير بين المعنى والمبنى.
المحسنات البديعية في المقامة البغدادية
أورد الهمذاني الكثير من المسنات اللفظية في المقامة البغدادية ومنها:
- السجع
مثل: (الأزاذ وبغداد) و(حماره وإزاره) و(صيد وزيد) و(الشيطان والنسيان) و(زيد وعبي) وهي محسن لفظي تساوت فيه الفقرات.
- الموازنة
مثل: (صيد وزيد وعبي) و(أقبلت ونزلت ووافيت) و(قريد وعبيد وزيد) وهي تقوي المعنى وتزيد من وضوحه.
- الجناس
مثل: (عقد ونقد) و(عرقًا ومرقًا) و(النشر والقشر) وهو جناس ناقص.
- الطباق
مثل: (جمعه وتمزيقه) وهو طباق الإيجاب.
- الاقتباس
مثل: (إنّا لله وإنّا إليه راجعون).
- المقابلة
أشاب كعهدي أم شاب بعدي؟ وقد أعطت الأسلوب عذوبة ووقعًا جميلًا.
- التورية
مثل: (فانحنى الشواء بساطوره على زبدة تنوره) ولها معنى قريب وبعيد.
- الترادف
مثل قوله (تتقاطر وتترادف).
الأفكار الرئيسة في المقامة البغدادية
تناولت المقامة البغدادية العديد من الأفكار التي جالت في نفس كاتبها، ولعل من أهم ما جاء فيها من أفكار ما يلي:
التسول والاحتيال
وهي الفكرة الأساسية التي طرحتها المقامة البغدادية، والتي جسدها بطل المقامة عند خروجه من بيته لا يملك فلسًا واحدًا، وكان يُعاني من شدّة الجوع ويشتهي الحصول على الطعام، حتى وقع نظره على ذلك السوادي الشخص البسيط فقرّر أن يحتال عليه ليحصل على الطعام فيسد جوعه.
البطالة والفقر والحاجة
وهي إحدى الأفكار الرئيسة التي طرحتها المقامة البغدادية، سادت المجتمع في العصر العباسي في القرن الرابع الهجري وما رافقتها من ظواهر سلبية كثيرة تمثلت في الخداع والمكر والكدية للحصول على المال.
التفنن في أساليب الخداع والمكر
من الأفكار المهمة التي طرحتها المقامة فكرة التفنن في أساليب المكر والخداع للإيقاع بالضحية والتفاخر بهكذا عمل، وهو إن دل على شيء فيدل على شيوع ثقافة غريبة على المجتمع العربي في ذلك الوقت.
- الحرص على المال
تجسّدت في صاحب الحانوت الذي بادر إلى استخدام العنف والقسوة مع السوادي الرجل البسيط فأجبره على دفع ثمن الطعام الذي أكله ولم يعفُ عنه أو يسامحه.
- الكشف عن بعض خصائص المجتمع
سعت المقامة إلى إبراز الكثير من خصائص المجتمع البغدادي المتجسّد في شخصية المحتال والشحاذ والإنسان البسيط الذي ظل على فطرته السليمة وبساطته.