سيرة حياة الشاعر أبو دلامة
نشأة أبي دلامة وحياته
أبو دلامة؛ اسمه زند بن الجون وهو شاعر ساخر من الكوفة، كان من الموالي لرجل من رجال بني أسد، وعاش في عصر الدولة الأموية والدولة العباسية، وبدأ يتألق في ظِلّ الدولة العباسية عندما قربّه السفاح إليه، وكانت فيه دعابة وفكاهة جعلته خفيف الظل فاتخذه هو والمنصور والمهدي نديمًا.
يُظَن بأنّ هناك تحريفًا وقع في اسمه؛ ذلك أنّ اللغة العربية في بداية عهدها كانت تُكتب بدون تنقيط، ولِندرة اسم "زند" عند العرب، فهناك من كتبه "زبد" بالباء، وكذلك "زيد" بالياء، إلا أنّ الأرجح هو "زند".
اختلف العلماء حول سر كنيته "أبي دلامة"، فقيل أنّه كُنِّيَ بذلك نسبةً لابنه البكر الذي يُسمى دلامة، أو كُنِّيَ بهذه الكنية نسبةً إلى جبل "دولامة" الموجود في مكة وهو جبل شديد السواد، ويذهب معظم المترجمين إلى أنّ الشاعر توفي سنة 161هـ، وقيل بأنّه عاش في عصر هارون الرشيد (149هـ - 193هـ).
صفات أبي دلامة
عُرف أبو دلامة بمجموعة من الصفات التي تميزت بها شخصيته وانعكست على شعره، وهي كالآتي:
- سرعة البديهة وجواب الخاطر
إذ عُرِفَ بمقدرته على الرد والتخلص الفَكِه، وتُعد الأبيات الشعرية التي هجا فيها نفسه أنموذجًا صادقًا فكهًا على أساليب التهكم بالذات، وقد تخلص من خلاله من إحراج الخليفة المهدي له، وحصل على مكافأة تعبيرًا عن رضا القوم عن حسن تخلصه من الموقف، وإعجابهم بأسلوبه الفكه الظريف.
- جرأة جعلت منه شخصيةً لا تعرف الجدّ
إذ عُرف عنه الضحك والمزاح كثيرًا في أيّ أمر من أمور الحياة، وكان الخليفة أبو جعفر المنصور متسامحًا معه، ولو أخذ بحقيقة ما يقول لأنزل فيه أشد العقاب.
- التسلل إلى القلوب بظرافته
كان أبو دلامة أسودًا حبشيًا صاحب نوادر فصيح الكلام، بليغ العبارات ، عارفًا بأخبار الأدباء، ناظمًا للشعر، يتسلل إلى القلوب بظرافته ومواقفه الطريفة وشخصيته المرحة، فيُثير إعجاب السامعين ويُبهجهم بقصائده وحكاياته.
- قدرته على الاستعطاف بسخرية
كان الخليفة يُعاقب أبا دلامة بما يتناسب مع شخصيته، فكان يحبسه مع الدجاج عندما يُقبض عليه وهو سكران، فلمّا يصحو من سكره ويسمع صوت الدجاج يتعجب من الحال التي هو فيها، فيطلب مِحبرة وقرطاسًا، ويكتب إلى الخليفة شعرًا يستعطفه فيه، فيضحك الخليفة على حاله، ويخلي سبيله ويأمر له بجائزة.
قصة أبي دلامة والمهدي
كان أبو دلامة مقربًّا إلى الخلفاء العباسيين الثلاثة الأوائل، فبعد وفاة السفاح بن علي دخل على الخليفة أبي جعفر المنصور وأنشده، وبعد خلافة المنصور، تولّى ابنه المُلقب بالمهدي الحكم، فأصبح المهدي يُفضل شعره ويستملحه ويستطيب مقالبه ونوادره، ومن قصصه معه ما يأتي ذِكره:
- خرج المهدي يومًا برفقة علي بن سليمان إلى الصيد، فظهر لهما قطيع من الظباء، فأُرسلت الكلاب، وجرت الخيول، فرمى المهدي السهم، فصرع الظبي، ورمى علي بن سليمان، فقتل كلبًا منها، فقال أبو دلامة:
قَد رَمَى المَهديُّ ظَبياً
- شَكَّ بالسَّهم فؤادَه
وَعَلِيُّ بنُ سُلَيمَا
- نَ رَمَى كَلباً فَصَادَه
فَهَنِيئاً لَهُمَا كُلُّ
- امرِئٍ يأكُلُ زادَه
فضحك المهدي حتى كاد أن يقع من فوق السرج، وقال: صَدَقَ والله أبو دلامة، وأمر له بجائزة رفيعة.
- حضر أبو دلامة إلى المهدي، وهو يبكي، فسأله المهدي ما به، فقال: ماتت أم دلامة، وأنشده لنفسه فيها:
وَكنَّا كَزَوجٍ مِن قَطَا في مَفَازَةٍ
- لَدَى خَفضِ عَيشٍ ناعِمٍ مُونِقٍ رَغدِ
فأفرَدَني رَيبُ الزَّمَانِ بِصَرفِهِ
- ولم أرَ شيئاً قَطُّ أوحَشَ مِن فَردِ
فأمر المهدي أن يُعطى الثياب، والطيب، والدنانير، وفي يوم دخلت زوجته أم دلامة على الخيزران وهي زوجة المهدي، فأعلمتها أنّ أبا دلامة مات، فأعطتها مثلما أُعطي، فلما التقى المهدي والخيزران عرفا حيلتهما، فجعلا يضحكان منها.
- لما قدم المهدي من الريّ إلى بغداد دخل عليه أبو دلامة ليهنئه بقدومه، فاقترب منه المهدي، فقال: كيف أنت يا أبا دلامة؟ قال: يا أمير المؤمنين:
إنّي نَذَرتُ لَئِن رَأَيتُكَ سَالِماً
- بِقُرى العِرَاقِ وأنتَ ذُو وَفرِ
لَتُصَلِّيَنَّ على النَّبيِّ مُحَمَّدٍ
- وَلَتَملأَنَّ دَرَاهماً حِجري
قال المهدي: أما الأولى فنعم، وأما الثانية فلا. فقال: جُعِلت فداك، إنّهما كلمتان لا فرق بينهما. فقال المهدي آمرًا: يُملأ حجر أبي دلامة بالدراهم، فقعد، فمُلِئ حجره بالدراهم. فقال المهدي: قم الآن يا أبا دلامة. فقال: يتخرق قميصي يا أمير المؤمنين حتى أشيل الدراهم وأقوم، فردَّها إلى كيسها ثم قام.
سمات شعر أبي دلامة
عُرف شعر أبي دلامة بمجموعة من السمات تُشير إلى انعكاس سخريته وهجائه على أدبه، ومنها الآتي:
- الفكاهة والسخرية
يُعتبر شعر أبي دلامة من النوع الفكاهي الساخر الذي يعكس شخصيةً مرحةً، فمعلوم أنّ الشاعر صاحب نوادر ومقالب فريدة من نوعها، وهذا القالب الذي وضع فيه شعره اتخذه فيما بعد الشاعر ابن الرومي قالبًا يُحتذى به.
- تنوع الأغراض الشعرية
معظم شعر أبي دلامة في المدح، والهجاء، والخمر، والدعابة، وليس فيه وصف للرياض، أما القول بأنّ أبا دلامة يُداخل الشعراء ويُزاحمهم في جميع فنونهم، وينفرد في وصف الشراب، والرياض، ففيه مبالغة ظاهرة.
- الفصاحة وعدم التكلف
يمتاز شعره بالفصاحة ، والسلاسة، والبعد عن التكلف، والتصنّع، ووحشيّ الكلام، وهذا ما فرضته طبيعة الشاعر التي تميل إلى الدعابة، والفكاهة، والهجاء المبطن، وهذا ما يجعل الألسنة تُرددّه، ويجعل النقاد يصفونه بالملاحة والظرافة.
- تعدد مصادره الأدبية
كان شعر أبي دلامة متفرقًا في عدة مصادر أدبية وتاريخية، مثل: كتاب الأغاني، ومختار الأغاني، ووفيات الأعيان، وطبقات الشعراء، وغيرها، مما نتج عنه محاولة المؤرخين والعلماء جمع شعره.
السخرية في شعر أبي دلامة
لجأ أبو دلامة إلى الهجاء والسخرية في شعره بشكل ملحوظ؛ وذلك لحسه المفعم بالحيوية وطبيعته الفكاهية الساخرة لدرجة أنّه تعدى هجاء الناس إلى هجاء أقربائه كابنته، وزوجته، حتى أنّ أمه لم تسلم من لسانه، بل تعدى ذلك إلى هجاء نفسه.
على سبيل السخرية في شعره، ذهب إلى وصف والدته بالعجز والهزال، إذ يقول:
هاتِيكَ والِدَتي عَجُوزٌ هِمَّةٌ
- مِثلُ البليَّةِ دِرعُها في المِشجَبِ
مَهزُولَةُ اللَّحيَينِ من يَرَها يَقُل
- أبصَرتُ غُولاً أو خَيَالَ القُطرُبِ
كما قام بهجاء زوجته قائلًا:
لَيسَ في بَيتِي لِتَمهِي
- دِ فِراشِي مِن قَعيدَه
غَيرُ عَجفَاءَ عَجُوزٍ
- سَاقُها مِثلُ القَدِيدَه
وَجهُهَا أقبَحُ مِن حُو
- تٍ طَرِيٍّ في عَصِيدَه
ما حَيَاةٌ مَعَ أُنثَى
- مِثلَ عِرسِي بِسَعِيدَه
أبو دلامة يهجو نفسه
يُروى أنّ أبا دلامة دخل يومًا على الخليفة المهدي، الذي كان يتعمد إحراجه ليتفكه بأساليبه المضحكة، وقدرته على التخلص، وكان عنده جماعة من أشراف بني هاشم، فقال له المهدي: لئن لم تهج واحدًا ممن في البيت لأقطعنَّ لسانك أو لأضربن عنقك.
فنظر الحاضرون إلى أبي دلامة، وهو يغمز كل واحد منهم كلما نظر إليه، بأنّ عليه رضاه، فقال أبو دلامة: فعلمت أنّي قد وقعت، وأنّها عزمة من عزماته ولا بدّ منها، فلم أرَ أحدًا أحق بالهجاء مني، ولا يسلمني من هذا الأمر إلا هجاء نفسي، فقلت:
ألا أبلغ لَدَيكَ أبَا دُلامَه
- فَلَيسَ مِنَ الكِرامِ وَلا كَرَامَه
إذا لَبِسَ العِمَامَةَ كانَ قِرداً
- وَخِنزِيراً إذا نَزَعَ العِمَامَه
جَمَعتَ دَمَامةً وجَمَعتَ لُؤماً
- كَذَاكَ اللُّومُ تَتبَعُهُ الدَّمَامَه
فإن تَكُ قَد أصَبتَ نَعِيمَ دُنيَا
- فلا تَفرَح فَقَد دَنَتِ القِيامَه
فتعالت ضحكات القوم، ولم يبقَ من الحاضرين أحدٌ إلا أجازه، ويظهر من هذه الأبيات أنّ أبا دلامة لا يتحرج من وصف نفسه بالخنزير إذا نزع عمامته، أو بالقرد إذا لبسها، وهذا وإن كان يحمل دلالة التهكم على الذات، إلا أنّه يعكس فنيًّا مدى قدرته على توليد الصور التي تنفر السامع، عندما يتطلب المعنى ذلك.
طرائف أبي دلامة
أبو دلامة والخوارج
يُروى أنّ أبا دلامة خرج في جيش روح بن حاتم، فدفعه روح لمبارزة أحد الخوارج، فطلب أبو دلامة أن يعفيه، ولكن روحًا أصرَّ، وعندما التقيا حدثه أبو دلامة قائلًا: أتقتل من لا يُقاتلك؟ قال: لا. فقال: أتستحل أن تقتل من على دينك؟ قال: لا. فاذهب عني إلى لعنة الله، فقال أبو دلامة: إنّ معي زادًا أريد أن آكله، وأريد مُؤاكلتك لي؛ لتتوكد المودة فأكلا، وانصرف كلٌّ إلى معسكره.
خرج رجل من الخوارج يدعو للمبارزة، فطلب روح من أبي دلامة الخروج لمبارزته، فأنشد شعرًا فكاهيًّا يعبر عن مدى جبنه :
إنّي أَعُوذُ بِرَوحٍ أن يُقَدّمَنِي
- إلى البِرازِ فَتَخزَى بي بَنُو أَسَدِ
إنّ البِرَازَ إلى الأقرَانِ أعلَمُهُ
- مِمَّا يُفرِّقُ بَينَ الرُّوحِ والجَسَدِ
إنَّ المُهَلَّبَ حُبَّ المَوتِ أَورَثَكُم
- وَمَا وَرِثتُ اختِيارَ المَوتِ عَن أحَدِ
لَو أنَّ لي مُهجَةً أُخرَى لَجُدتُ بِهَا
- لكِنَّها خُلِقَت فَرداً فَلَم أجُدِ
أبو دلامة والمنصور
من حكاياته الطريفة مع الخليفة أبي جعفر المنصور أنّه تأخر عن الحضور بباب الخليفة ثم حضر، فأمر المنصور بإلزامه بالصلاة في مسجده، ووكل من يُراقبه، فمرَّ به الوزير، فقام إليه أبو دلامة ورفع رقعةً مكتوبةً، وقال: هذه ظلامة لأمير المؤمنين، فأوصِلها أعزّك الله إليه بخاتمها.
فأخذها الوزير فلما دخل على أبي جعفر، أوصلها إليه، فقرأها فإذا فيها:
أَلَم تَرَيَا أنَّ الخَلِيفَةَ لَزَّني
- بِمَسجِدِهِ والقَصرِ ما لي ولِلقَصرِ
وكَلَّفَني الأولى جميعاً وعَصرَها
- فَويلي من الأُولى وعولي مِنَ العَصرِ
وواللهِ ما لي نِيَّةٌ في صلاتهِ
- ولا البِرُّ والإحسانُ والخَيرُ مِن أمري
وَمَا ضَرَّهُ واللهُ يغفِرُ ذَنبَهُ
- لَوَ أنّ ذُنوبَ العَالَمينَ على ظَهرِي
فضحك المنصور وأمر بإحضاره، فلما حضر قال: هذه قصتك؟ قال: دفعت إلى أبي أيوب "الوزير" رقعةً مختومةً أسأل فيها إعفائي من لزوم ما أمرني بلزومه، فقاله المنصور: اقرأها، قال: ما أحسن أن أقرأ، وعلم أنّه إن أقرَّ بكتابته لها، أقام المنصور عليه الحد؛ لِذكر الصلاة وتعريضه بها.
فلما رآه يحيد من ذلك قال له الخليفة: يا خبيث، أمّا لو أقررت بذلك لضربتك الحد، لقد أعفيتك من لزوم المسجد، فقال أبو دلامة: أو كنت ضاربي يا أمير المؤمنين لو أقررت، فقال له: نعم، قال أبو دلامة: مع قول الله عز وجل: "يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ" فضحك منه وأُعجب من انتزاعه ووصله.
مختارات من شعر أبي دلامة
- قال أبو دلامة معزيًّا بوفاة المنصور، ومهنئًا المهدي بتوليه الخلافة:
عَينَانِ وَاحِدةٌ تُرَى مَسرُورَةً
- بإمَامِها جَذلَى وأُخرَى تَذرِفُ
تبكي وَتَضحَكُ مَرَّةً وَيَسُوؤها
- ما أبصَرَت وَيَسُرُّها ما تَعرِفُ
فَيَسُوؤها مَوتُ الخَلِيفةِ مُحرِماً
- ويَسُرُّها أن قامَ هذا الأَرأفُ
ما إن رأيتُ وَلا سَمِعتُ كما أرَى
- شعراً أرَجِّلُهُ وآخَرَ أنتِفُ
هَلَكَ الخلِيفةُ يا لأُمَّةِ أحمَدٍ
- فَأتَاكُمُ مِن بَعدِهِ مَن يَخلُفُ
أهدَى لهذا اللهُ فَضلَ خِلافَةٍ
- وَلِذاكَ جَنَّاتِ النَّعيم تُزَخرَفُ
فَابكُوا لِمَصرَعِ خَيرِكُم وَوَلِيِّكُم
- واستَشرِفُوا لِمَقَامِ ذا وتَشَرَّفُوا
- قال أبو دلامة عندما أفاق ووجد نفسه مسجونًا مع الدجاج بعد أن أمر الخليفة أبو جعفر المنصور بذلك:
أمير المؤمنين فدتك نفسي
- علام حبستني وخرقتَ ساجي
أمن صهباء ريح المسك فيها
- ترقرقَ في الإناءِ لدى المزاجِ
عقار مثل عين الديك صرفٌ
- كأن شعاعها لهب السراجِ
وقد طبخت بنار الله حتى
- لقد صارت من النطف النضاحِ
تهشُّ لها القلوبُ وتشتهيها
- إذا برزت ترقرق في الزجاجِ
أقاد إلى السجون بغير جرمٍ
- كأني بعض عمالِ الخراجِ
ولو معهم حُبست لكان سهلاً
- ولكني حُبست مع الدجاجِ
دجاجاتٌ يطيف بهن ديكٌ
- يناجي بالصياحِ إذا يناجي
وقد كانت تخبرني ذنوبي
- بأني من عقابك غيرُ ناجي
على أني وإن لاقيت شرًّا
- لخيرِك بعد ذاكَ الشرِّ راجي
- قال يهجو أحد رؤساء ديوان الرسالة في العصر العباسي وهو عليّ بن صالح:
لِعَلِيِّ بنِ صَالِحِ بنِ عَلِيّ
- حَسَبٌ لَو يُعِينُهُ بِسَمَاحِ
ومَواعِيدُهُ الرِّيَاحُ فَهَل أن
- تَ بِكَفَّيكَ قَابِضٌ للرِّياحِ
وَبَنُو صَالِحٍ كثِيرٌ وَلكِن
- ما لَنَا في عَدِيدهِم مِن صَلاحِ
غَيرَ فَضلٍ فإنَّ لِلفَضلِ فَضلاً
- مُستَبِيناً على قُرَيشِ البِطَاحِ