سبب نزول فليدع ناديه
نهي أبي جهل النبي عن الصلاة عند المقام المكي
قال الله -تعالى- في سورة العلق: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ* سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ)، وقد نزلت هذه الآيات الكريمةُ في عدوّ الله ورسوله أبي جهل، وذلك عندما كان ينهى النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- عن الصّلاة عند الكعبة، وكان يمنعه مراراً عن فعل ذلك، فقد قال الله -تعالى- فيه: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْدًا إِذَا صَلَّى).
ولمّا رأى أبو جهل النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- ذات مرّةٍ يُصلّي عند المقام أمام الكعبة غضب ونهر رسول الله قائلاً له: "ألم أنهك عن هذا؟"، وتوعّد الرسول -صلى الله عليه وسلم- لفعله هذا، لكنّ نبي الله لم يلتفت لكلامه، بل زجره وأغلظ عليه في الكلام مُتوعِّداً له ومُهدِّداً لمنعه من التّعبُّد في هذا المكان المقدّس.
أبا جهل ودعوته لمجلس قريش
لم يَرِق لأبي جهل أن يسمع تهديداً من محمّد -صلّى الله عليه وسلّم-، ولم يكن بإمكانه السّكوت وهو السيّد المطاع في قومه، فقال مُتفاخراً إنّ له من الأقارب والعشيرة ما ليس عند أحد من أهل قُريش، وهم مستعدّون لنصرته والوقوف إلى جانبه متى أشار إليهم، فأمر الله -تعالى- نبيه الكريم أن يطلب من أبي جهل أن يدعوَ ناديَه؛ أي أهلَه وأنصارَه من قومه، والنّادي هنا هو المجلس، فردّ أبو جهل قائلاً: "علام يتوعّدني محمّد وأنا أكثر أهل الوادي نادياً؟".
فكان ردّ الله -تعالى- لأبي جهل أن يدعوَ ناديه إن أراد، فإننا سندع الزبانيةَ؛ وهم الملائكة الشّداد المسؤولون عن العذاب، وقيل إنّه لو دعا ناديَه حقّاً كما توعّدَ، لأخذته زبانية العذاب من فوره، لكنّه خاف من وعيد الله له، ثمّ أمر الله -تعالى- رسوله الكريم بعدم إطاعة أبي جهل ولا الالتفات لما يقوله، وإكمال صلاته، فلن يستطيعَ أبو جهل إلحاقَ الأذى به؛ فإنّ الله -تعالى مانعُه وحافظ لنبيّه.
الإعجاز والبلاغة في قوله تعالى: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ)
تتميّز الآية الكريمة على الرّغم من إيجازها بما يتميّز به كتاب الله -تعالى- عامّة؛ باشتمالها على وجه بليغ من وجوه الإعجاز البيانيّ، وهذا النّوع من الإعجاز يُعنى بذكر المحلّ أو المكان، ولكنّ المقصود به يكون هو أهل ذاك المحلّ أو من يقطن بذاك المكان.
فإنّ الله -تعالى- لما طلب من أبي جهل أن يدعو ناديه لم يرد أن يدعو مكان اجتماع قومه، بل أراد أن يدعو من يحلّ بهذا النّادي، وقد أراد الله -تعالى- من هذا المجاز وإطلاق المحلّ التّعميم؛ لأنّ الإنسان غالباً يتخيّر لناديه الذي هو مخلصٌ له، ومن يحبّه ويدافع عنه بصدق.
كما تجدر الإشارة إلى أنّ الآية اشتملت على حرف اللّام في قوله "فليدع" وهي هنا للتّعجيز وبيان مدى عجز أبي جهل وضعفه أمام ملائكة الجبّار، وكأنّ الآية تقول أنّه لن يفعل ولن يستطيع ذلك، ولكن إن أراد فليناد عشيرته، فكانت هذه الآية معجزة قرآنية؛ لأنّ أبا جهل سمع كلامَ تهديدٍ يُغضبه ويُحرّك حميّته لكنّه مع ذلك لم يجرؤ أمام تهديد الله له.
نزلت آية "فليدع ناديه" من سورة العلق في أبي جهل، وذلك بعد منعه وتهديده لرسول الله من الصلاة عند الكعبة، فأراد أبو جهل أن يستنجد بقومه لزجر محمّد، فأنزل الله الآية متحدِّياً له بأن يدعو من أراد من أنصاره، فإنّ الله -تعالى- سيدعو له ملائكة العذاب، وهذه الآية بليغة يقف عندها النّبيه لاشتمالها على كثير من المعاني على الرّغم من صغرها وإيجازها.