سبب نزول آية (وليعفوا وليصفحوا)
سبب نزول آية (وليعفوا وليصفحوا)
قال الله -تعالى- في سورة النور : (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، وقد جاء في سبب نزول هذه الآية أنّ أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- كان قد أقسم أنّه لن ينفق على مسطح بن أثاثة؛ بسبب ما قاله في حقّ أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في حادثة الإفك.
وقد كان مسطح بن أثاثة يقرب أبا بكر الصديق من جهة أمّه، فلمّا نزلت هذه الآية، وقرأها رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- على أبي بكر الصديق عاد للإنفاق على مسطح، ولم ينقطع عن ذلك إلى أن توفي -رضي الله عنه-؛ فعلى الرغم من عمق الأذيّة التي تعرّض لها؛ إلّا أنّ في هذه الآية دليلاً على أنّ الإحسان سبب في عفو الله عن العبد.
تفاصيل حادثة الإفك
حصلت حادثة الإفك في غزوة بني المصطلق ؛ فقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلّم- إذا أراد أن يخرج إلى إحدى الغزوات أقرع بين أمّهات المؤمنين، فمن تقع القرعة عليها أخذها، وفي تلك الغزوة وقعت القرعة على السيّدة عائشة -رضي الله تعالى عنها-، وكانت السيّدة عائشة تُحمل على الهودج، فلمّا فرغ النبي -صلى الله عليه وسلّم- من الغزو أمر الجيش بالرحيل.
وعندما همّ القوم بالرحيل ذهبت السيّدة عائشة لقضاء شيء من حاجتها، فلمّا أرادت اللحاق بهم، لاحظت أنها قد أضاعت عقدها؛ فرجعت لكي تبحث عنه، وفي هذه الأثناء حمل القوم الذين كانت معهم الهودج، وهمّ يظنّون أنها فيه، وعندما وجدت أمّ المؤمنين عقدها لحقت بالجيش، فلم يكن هناك أحد، فبقيت في مكانها علّهم يعودون إليها، وغلبها النعاس فنامت.
كان صفوان بن معطّل قد نزل آخر الليل للاستراحة، وعندما جاء رأى السيّدة عائشة فعرفها، فأناخ راحلته لتركبها، وقاد الراحلة حتى لحقوا بالجيش دون أن يقول أي شيء سوى: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، فخاض بعض القوم في شأنها، وكان على رأسهم عبد الله بن أُبيّ بن سلول .
ولمّا عادت إلى المدينة اشتكت من المرض شهراً ولزمت بيتها؛ فلم يريبها شيء سوى أنها لم تكن ترى من رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- ما تراه منه عادةً من اللطف، واستمرّ الأمر كذلك حتى تحسّن حالها؛ فخرجت يوماً مع أمّ مسطح، فسمعت امرأة تقول لها: "تعس مسطّح"، وأخبرتها بما قاله أهل الإفك، فزادت مرضاً حتى برّأها الله -تعالى- في كتابه العزيز.
تفسير آية (وليعفوا وليصفحوا)
أجمع العلماء على أنّ هذه الآية نزلت في الصحابي الجليل أبي بكر الصديق ؛ عندما حلف ألّا ينفق على مسطح بن أثاثة، ولا يعطيه شيئاً؛ لما كان منه من الخوض في الإفك، وفيما يأتي بيان مختصر لمعاني الآية الكريمة ومقاصدها:
- قوله -تعالى-: (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ)
ومعناها؛ لا يقسم أو يحلف أصحاب الفضل والسعة في المال، ألا ينفعوا أحداً، حيث إن (يأتل) على وزن (يفتعل) من الألية، وأهل الفضل هم أهل الاستقامة على دين الله، والسعة تشير إلى الغنى وبسط الرزق.
- قوله -تعالى-: (أَن يُؤْتُوا)
ومعناها؛ لا يقسموا على أن لا يحسنوا إلى من يستحقّ الإحسان، فلا يعطوهم من مالهم.
- قوله -تعالى-: (أُوْلِي الْقُرْبَى)
القريب هو من قرب من الإنسان بالنّسب؛ سواءً كان اجتماعه معه في الأصول أو في الفروع، وجاء ذِكر ذوي القربى في الآية الكريمة؛ لأنّ مسطح بن أثاثة يقرب لأبي بكر الصديق من جهة النساء، فلمّا خاض في حادثة الإفك تأذى أبو بكر بذلك كثيراً؛ خاصةًً أنّ أذى القريب أشدّ من أذى البعيد.
- قوله -تعالى-: (والْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)
هذه الصّفات والصّفة التي قبلها تخص موصوف واحد؛ وهو مسطح، فقد كان مسكيناً؛ أي ضعيفًا قليل المال، وكان أيضاً من المهاجرين؛ وفي ذلك إشارة من الله -تعالى- على فضله.
- قوله -تعالى-: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا)
العفو هو السّتر، والصّفح هو الإعراض، والمقصود أن يعفوا عنهم؛ لما اقترفوه من ذنب، وأتوه من جناية جرّاء خوضهم في حادثة الإفك.
- قوله -تعالى-: ( أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)
ومعناها؛ ألا تحبون أن يغفر الله لكم إذا عفوتم وصفحتم عمّن أساء إليكم!، وفي ذلك خطاب لأبي بكر الصّديق -رضي الله عنه- الذي قال عندما سمع الآية الكريمة: "بلَى وَالله نحب أَن يغْفر لنا"، فعاد للإنفاق على مسطّح.
- قوله -تعالى-: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)
أيّ إنّ الله -سبحانه وتعالى- كثير المغفرة لذنوب عباده، رحيم بالمؤمنين، وفي ذلك إرشاد للمؤمنين أن يقتدوا بربّهم -جلّ في علاه- الذي يغفر الذنوب لعباده، ويعفو ويصفح عن زلّاتهم.