خطبة يوم عرفة
مقدمة الخطبة
إنَّ الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، نحمد الله أن منَّ علينا باستقبال هذا اليوم المبارك يوم عرفة الذي هو من أقدس أيام السنة على الإطلاق، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
الوصية بتقوى الله
معشر المسلمين، اتقوا الله حق تقاته، فإنَّ تقوى الله -تعالى- خير وصية أوصى الله بها الأولين والآخرين، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)،وهي ما أوصانا بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي ذر-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّقِ اللهَ حيثُما كنتَ، وأتبِعِ السيِّئةَ الحَسَنةَ تَمْحُها)،فاتقوا الله عباد الله لعلكم ترحمون.
الخطبة الأولى
أمة الإسلام، أمة القرآن، إنَّ الله -جل جلاله- ذكر في القرآن الكريم صفات أهل الإيمان وأخلاقهم وحثَّنا على أن نكون منهم، وذكر صفات غيرهم من الكفار والمنافقين وحذرنا من أن نكون منهم، وذكر صفات أهل الإيمان في المدح لهم ولأعمالهم، وذكر صفات غيرهم في معرض الذم لها والذم لمن تخلق به، وبيان ما ينتهي إليه حالهم.
قال -تعالى-: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)،(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)،(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).
فمن تدبر كتاب الله رأى فيه الهدى والنور، وقاده إلى الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، قال -تعالى-: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَ)، أمة الإسلام، يقول الله - جل جلاله- وهو أصدق القائلين: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
أمة الإسلام، إنَّ الله -تعالى- بنى هذا الدين على أركان خمسة، أساسها تحقيق شهادة أنَّ لا إله إلا الله وأنَّ مُحمَّداً رسول الله، وأن نعبد الله وحده مخلصين له الدين، وأن نصرف كل عبادتنا لربنا، أن نصرف دعاءنا وذبحنا ونُذرنا ورجاءنا وخوفنا واستغاثتنا واستعاذتنا واستعانتنا لربنا.
فلا نعبد غيره، ولا نرجوا سواه، ولا نستغيث إلا به، ولا نؤمل في تفريج الكربات إلا هو -سبحانه وتعالى-، ونؤمن بمحمَّد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- خاتم أنبياء الله ورسله -عليهم السلام-.
أيها المسلمون، ما أعظم هذه الأيام، وما أجلَّها من مواسم، فيوم عرفة يومٌ عظيمٌ شريف، وعيد لأهل الموقف، يوم تُعتق فيه الرقاب، ويُسمع فيه الدعاء ويُجاب، وما من يوم أكثر من أن يعتق الله -تعالى- فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنَّه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، وهذا اليوم هو من الأيام العشرة التي هي أفضل أيام السنة، وفيها أقسم الله -تعالى- فقال: (وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ)
وإنَّه ليومُ مشهود، تشهده الملائكة المطهرون، ويشهده الناس من كل نواحي هذا العالم، ويذكرنا بالوقوف يوم القيامة، واللباس الأبيض يذكرنا بالموت والكفن، نسأل الله حسن الخاتمة، وكم يغبط المسلمين اليوم حجاج بيت الله الحرام على ما رزقهم الله من بركات وخيراته، لما يتنزل علينا من رحمة الله -تعالى- ومغفرته في هذا الموقف العظيم المبارك؛ الوقوف في عرفة.
ويوم عرفة يوم إحسان الظن بالله -تعالى-، وعدم اليأس من رحمته، ويُستحب للمسلمين في هذا اليوم الإكثار من الطاعات والقربات، فعلينا أن نحرص على أن تغرب ذنوبنا مع غروب شمس هذا اليوم، واستحضار القلب وصدق الطلب من الله -تعالى-.
يا عباد الله، إنَّ صوم عرفة لغير الحاج سُنة نبويَّة وغنيمة كبرى، فهو يكفِّر ذنوب سنة ماضية وسنة قادمة، لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (صِيَامُ يَومِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ علَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتي بَعْدَهُ).
يا عباد الله، إنَّ الدنيا تدعونا إلى زينتها، وإننا اليوم مجرَّدون من كل زينة ومتاع مقبلين على الله -عز وجل-، لا نرجوا إلا رضاه، ونطمع في مغفرته، وإنَّ في هذا الموقف الأجل رمزية مهمة، فهو ليس مجرد شعيرة يؤديها المسلم ثم يعود إلى الدنيا بكل ما فيها من هرجٍ ومرج.
بل إنَّه من اسمه وقوف وتوقف، علينا يا معشر المسلمين بالوقوف على حال أنفسنا مع الله -عز وجل-، ومع شعائر ديننا كله؛ اليومية والأسبوعية والشهرية والسنوية، هل نتوقف في كل هذه العبادات ونفعلها على أكمل وجه ثم نسأل الله -تعالى- قبولها؟ أم ننجزها إنجاز الواجب المُتخلص منه بغض النظر عن القبول من عدمه؟
علينا الوقوف مع حال أمتنا والسعي إلى تغيير حالها، قال -تعالى-: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) ، إنَّه يا أخوة الإيمان سبب الابتعاد عن دين الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، الانشغال بما لا ينفع على حساب ما ينفع.
نسأل الله الهداية والرشاد والخير والسداد، وأقول ما سمعتم واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا مُحمَّد وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد، أيها المسلمين، أخوة الإيمان؛ علينا أن نعرف قدر نعمة الإسلام، ونحمد الله عليها، ثم نفعل ما يوجب شكر هذه النعمة بامتثال أمر الله -عز وجل- واجتناب نواهيه، وشكر الله على أن هدانا لهذا الدين وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
قال - تعالى-: ( أَفَمَن شَرَحَ اللَّـهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّـهِ أُولَـئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) ، وعلينا في هذا اليوم العظيم المبارك أن نسأل الله الثبات على الإسلام، وألا تزيغ قلوبنا عن الصراط المستقيم، وإنَّ هذا من صفات الراسخين في العلم الذين عرفوا قدر نعمة هذا الدين ورفعوا شأنه في نفوسهم فرفعهم الله به.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن نكون منهم وإن هدانا للإسلام أن يثبت قلوبنا عليه وألا تزيغ أبصارنا ولا عقولنا عنه، فيا أمة الإسلام، اجتمعوا على دين الله، ولا تفرقوا، واذكروا في هذا المشهد الجامع ما سيكون عليه حالنا يوم القيامة، (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّـهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) .
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الدعاء
أيها المسلمون إنَّ خير الدعاء دعاء يوم عرفة فأظهروا فيه التوبة والاستغفار والتذلل والانكسار والندامة والافتقار والحاجة والاضطرار:
- اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، اللهم احفظ علينا ديننا، اللهم احفظ علينا أعمالنا، اللهم وفق المسلمين لما يرضيك، اللهم أصلح حال المسلمين، اللهم أبدلهم بالضعف قوة وبالذل عزة وبالهوان هيبة، وبالافتراق جمعاً على الكلمة.
- اللهم في هذا اليوم المبارك الذي تُعرض فيه أعمالنا عليك نسألك يا الله أن تغفر لنا وترحمنا ووالدينا، اللهم تقبل من حجاج بيتك الحرام، اللهم ومن الصائمين القانتين الراجين عفوك ورحمتك يا الله، اللهم اغفر لأزواجنا وذرياتنا وأرحم أقاربنا وسائر المسلمين.
- (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) .
- اللهم صلِّ على مُحمَّد وعلى آل مُحمَّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على مُحمَّد وعلى آل مُحمَّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
عباد الله، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون، وأقم الصلاة.