خطبة عن عبادة جبر الخواطر
خطبة عن عبادة جبر الخواطر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اتقوا الله عباد الله، إن جبر خواطر الناس خلق إسلامي عظيم، وعبادة تقرب العبد من ربه، فهي تدل على سلامة الصدر ورجاحة العقل، وتؤدي إلى ارتقاء وسمو في نفس المرء الذي يحرص على فعلها، فعندما يقوم المسلم بجبر نفوسٍ كسرت وقلوبٍ جرحت فإنها تترك أثراً عظيماً في النفس، وتعد من أجمل الطاعات وأرقاها.
الخطبة الأولى
إخوتي في الله، إن حديثنا اليوم عن عبادة جبر الخواطر، وأجمل ما في هذا المصطلح أنه مأخوذ من اسم الله "الجبار"، وهذا الاسم يطمئن القلب ويريح النفس، فهو سبحانه الذي يجبر عباده ويحولهم من الفقر للغنى ومن المرض إلى الصحة، فهو سبحانه جبار متصف بكثرة جبره حاجات خلقه، فتعالوا بنا نتصفح آيات القرآن الكريم لنرى ما جاء فيها حول هذه العبادة الجليلة وهذا الخلق الإسلامي العظيم:
- قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}، فكان الوحي من الله -سبحانه وتعالى- لتثبيت قلب النبي يوسف -عليه السلام- ولجبر خاطره؛ لأنه ظُلم وأوذي من أقرب الناس إليه من أخوته، والمظلوم دائماً ما يحتاج إلى جبر الخاطر لذلك شرع لنا جبر الخواطر المنكسرة.
- وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب مكة التي ولد فيها وكبر، ولكنه أُخرج منها ظلماً، فاحتاج في هذا الموقف الصعب إلى أمرٍ يواسيه ويصبره على ما أصابه، فأنزل الله تعالى له قرآناً مؤكداً بقسم أن الذي فرض عليك القرآن وأرسلك رسولًا وأمرك بتبليغ رسالته، سيردك إلى موطنك مكة عزيزًا منتصرًا وهذا ما حصل بالفعل.
- وقال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}، وهنا لا بد من ذكر روعة معنى الآية، حيث يقول فيها ربنا جل وعلا أنه سيعطيك يا محمد حتى ترضى، وهذه رسالة لكل مهموم له حاجة أنه سبحانه سيعطي أي قلب لجأ إليه بصدق.
- لقد جبر الله -تعالى- خاطر كثيرٍ من الأنبياء، فعندما غرق ولد نوح في الطوفان فبكى نوح -عليه السلام- حزناً فجبر الله خاطره وقال له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}، وجبر خاطر إبراهيم -عليه السلام-، فقال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَام}، وجبر خاطر موسى -عليه السلام-، فقال: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}، وجبر خواطر غيرهم كيوسف وأيوب ويونس وزكريا.
جبر الخواطر واجب على كل مسلم
نماذج كثيرة شرعها ديننا الإسلامي لجبر الخواطر، ولأجل ذلك كان من السنة تعزية أهل الميت ومواساتهم وتخفيف الألم الذي أصابهم عند فقد ميتهم، وكذلك عند مشاهدة بعض الفقراء أو اليتامى شيئًا من قسمة الميراث، فمن الأفضل أن يخصص لهم من المال شيء يجبر خاطرهم ويسد حاجتهم؛ حتى لا يبقى في نفسهم أي شيء، قال -تعالى-: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}، وفي قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} ، فنهى الله عن نهر السائل وإذلاله، بل على العكس فقد أمر بلطف التعامل معه وتطييب خاطره، حتى لا يذوق ذل النهر مع ذل السؤال، و قد عاتب الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أعرض عن ابن أم مكتوم، وكان أعمى عندما جاءه سائلًا مستفسرًا قائلًا: علمني مما علمك الله، وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- منشغلًا بدعوة بعض كفار قريش فأعرض عنه، فأنزل الله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}، فعاتبه الله على ذلك؛ لكيلا تنكسر قلوب أهل الإيمان، وبعد نزول هذا العتاب شديد اللهجة كان رسول الله إذا رأى ابن أم مكتوم مد له رداءه، وقال له: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي، وكان رسول الله يحبه ويحترمه ويأذن له أن يؤذن بالصلاة، ويخطب الجمعة ويصلي بالناس، كل ذلك كان تطييباً لنفسه وجبراً لخاطره.
الخطبة الثانية
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، اللهم إنا نعوذ بك من شر أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد، إخوة الإسلام فإن من أفضل القربات التي يمكن للمسلم أن يتقرب بها إلى ربه هو يجبر خاطر أخاه المسلم، حتى أن النبي داوم على الدعاء بالجبر ، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول بين السجدتين: (اللهم اغفِرْ لي وارحَمني، واهْدِني واجْبُرْني وارزُقْني) ، ولا شك أن كل إنسان يتذكر أي شخص قام بجبر خاطره ولو بكلمة أو فعل، فكم من فعل يفعله المرء لا يدري كيف جبر خاطر غيره، فهذه المواقف تحفظ ولا تنسى، كما لم ينس النبي -عليه الصلاة والسلام- موقف المُطعم بن عدي حين أدخله في جواره يوم عودته من الطائف حزينًا، فقال يوم أسر أسرى بدر: (لو كان المطعم بن عدي حيًّا، وكلَّمني في هؤلاء النَّتْنَى، لأجبتُه فيهم) .
اللهم ثبتنا على هذا الدين واهدنا صراطك المستقيم.