خطبة عن الشكر
مقدمة الخطبة
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً، ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، نحمدك بكل المحامد ما علمنا منها وما لم نعلم، سبحانك ربنا لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على خير خلقك محمد وعلى آله صحبه وسلم، أفضل من عبد، وأكثر من شكر.
الوصية بتقوى الله
عباد الله أوصيكم ونفسي بلزوم طاعته، واجتناب نهيه، ومداومة حمده وشكره، واتقوه حق تقاته عملاً بأمره -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
الخطبة الأولى
أيها الإخوة الأفاضل، خطبتنا لهذا اليوم عن الشكر، وما أدراك ما الشكر، بين لنا منزلته ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين بأنها من أعلى المنازل؛ وأنها نصف الإيمان، فالإيمان نصفان: نصف شكر، ونصف صبر، ويكفي الشكر منزلة أن الله العظيم الكبير -سبحانه وتعالى- سمى نفسه شاكراً وشكوراً.
أيها الأحبة، بيّن لنا الله -تعالى- في القرآن الكريم فضل الشكر في مواطن كثيرة، فوصف أنبياءه الكرام -عليهم الصلاة والسلام- بهذه الصفة الجليلة، فقال عن أبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام-: (إِنَّ إِبراهيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّـهِ حَنيفًا وَلَم يَكُ مِنَ المُشرِكينَ* شاكِرًا لِأَنعُمِهِ اجتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍ) ، وقال عن شيخ الأنبياء نوح -عليه الصلاة والسلام-: (إِنَّهُ كانَ عَبدًا شَكورًا).
أيها الأحباب أما عن مدح الشاكرين من عباده، فقد قال -عز وجل-: (وَسَيَجْزِي اللَّـهُ الشَّاكِرِينَ)،وقال -جل وعلا-: (إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكورٍ)،وأما عن أمره عباده بالشكر فقد قال -عز من قائل-: (وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)،كما وعد الشاكرين بالزيادة، وتوعد الكافرين بالنعم بالعذاب: (وَإِذ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرتُم لَأَزيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذابي لَشَديدٌ).
معاشر المسلمين، المحبين لمحمد -صلى الله عليه وسلم- سنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- كانت الترجمة العملية لشكر الرب -سبحانه-، فقد (قَامَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- حتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فقِيلَ له: غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ، قالَ: أفلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا).
وأوصى -عليه الصلاة والسلام- مرة معاذ بن جبل -رضي الله عنه- بقوله: (يا معاذُ إني لأحبُّك، أوصيكَ يا معاذُ لا تدعهنَّ دبُرَ كلِّ صلاةٍ تقولُ: اللهمَّ أعنِّي على ذكرِك وشكرِك وحسنِ عبادتِك).
أيها الكرام، الشكر له جوانب يجب على من يريد الاتصاف بهذه المنزلة السنية أن يحوطها، أولها: حب المشكور -سبحانه وتعالى-، فالطبيعي أن يحب الإنسان من قدم له معروفا فكيف بالله الكريم الجواد -سبحانه وتعالى- الذي يغمرنا بالعطايا التي لا يمكننا أن نحصيها، وثاني جوانبها: الثناء عليه -سبحانه وتعالى-بما هو أهله، وهذه هي النتيجة الطبيعية للرد على العطاء.
وثالثها: الخضوع له، بالتزام الطاعات، واجتناب المنهيات، والاعتراف قبل ذلك بقدرته عليك، وضعفك أمامه، ومن الخضوع له -سبحانه وتعالى- الاعتراف بأنك لا يمكنك شكره على الوجه الكامل، ويعبر لنا عن ذلك سيدنا داوود -عليه الصلاة والسلام- حين تأمل الشكر وخاطب ربه -عز وجل- قائلاً: "يا رب! كيف أشكرك والشكر نفسه نعمة رزقتني إياها، فيجب أن أشكرك عليها؟ قال: يا داود! الآن شكرتني.
وأما رابع تلك الجوانب فهو: عدم استعمال نعمه فيما يغضبه، فلا يستخدم العين بالنظر إلى المحرمات، ولا يستخدم القوة بالبطش بالضعفاء، ولا يستخدم المال في شراء المحرمات والسعي لها، بل عليك حتى تكون من الشاكرين أن تستخدم كل نعمة فيما يخصها من الطاعات، فتنفق من المال على الفقراء، وتستخدم القوة في مساعدة المحتاجين، وتستخدم الجاه في الشفاعة بالحق لمن يحتاجها، وهكذا.
عباد الله، للشكر فوائد وثمرات:
- فهو اعتراف بالمنعم -سبحانه وتعالى- والنعمة.
- وهو سببٌ من أسباب حفظ النعمة من الزوال، بل تحصيل المزيد منها ومن غيرها.
- كثرة النعم من المنعم -سبحانه وتعالى- لا يمكن أن يؤدي الإنسان حقها إلا بالشكر عليها.
- يكسب رضا الرب -عز وجل- ومحبته.
- الإنسان الشكور قريب من الناس حبيب إليهم.
- الشكر دليلٌ على سمو النفس وسعة العقل.
- الشكور قرير العين، يحب الخير للآخرين ولا يحسد من كان في نعمة.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وأصحابه وعلى من سار على نهجهم واقتفى، وبعد، أيها الإخوة الأكارم، إن الشكر منزلة من أسمى منازل السالكين في مدارج العابدين، وهو نصف الإيمان، وقد مدحه ربنا -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم، ونوه بأصحابه من الأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام- وتابعيهم، وكان رسولكم -صلوات ربي وسلامه عليه- في الذؤابة منهم.
أيها الأفاضل، للشكر جوانب عديدة هي: حب المشكور -سبحانه وتعالى-، والثناء عليه، والخضوع له، وعدم استعمال نعمه فيما يغضبه، وله ثمرات منها: تحقيق العبودية بالاعتراف بأن الله -عز وجل هو المنعم، وكذلك فيه حفظ النعمة من الزوال، وباب للزيادة، وتحصيل حبه -عز وجل-، وهدوء النفس وسلامتها من حسد الآخرين.
أيها الإخوة الأحبة، تذكروا وصية رسولكم -صلى الله عليه وسلم- التي ينقلها لنا عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: (أَحِبُّوا اللهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ)،وحاولوا دائما نعمه -سبحانه وتعالى- عليكم، وحتى تستشعروا النعم تفكروا بما لديكم وليس لدى الآخرين، كأن تكون معافين في أبدانكم مقابل المرضى، أو لديكم أولاد مقارنة بمن حرموا، وهكذا، وتذكروا أنكم لن تستطيعوا إحصاء نعمة واحدة، فكيف بكل النعم.
الدعاء
- اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.
- اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
- اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن.
- لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضا.
- اللهم لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد.
- اللهم اجعلنا من عبادك الشاكرين واجعلنا من عبادك الذاكرين.
- اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن وعبادتك.
- اللهم ما بنا من نعمة فمنك وحدك، فلك الحمد حمدا طيبا كثيرا.
- وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.