خطبة عن أيام التشريق
مقدمة الخطبة
إن الحمد لله، نحمدهُ، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونستنصره، ونعوذ بالله من شُرور أنفُسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، الحمد لله الذي جعل لنا أيام التشريق موسماً نتزود فيه من الطاعات ، وتتضاعف فيه الحسنات، ونُكثرُ فيه من ذكر رب الأرض والسماوات.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن مُحمداً عبده ورسوله، وصفيهُ من خلقه وخليله، نشهدُ أنه قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأُمّة، وكشف الغُمّة، اللهم صل عليه وعلى آله، وصحابته والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
الوصية بتقوى الله
عباد الله، أوصيكم ونفسي المُقصرة بتقوى الله ولُزوم طاعته، وأُحذركم ونفسي من مُخالفته وعصيان أوامره، فإن من اتقاه وقاه، ومن شكره زاده، فلنجعل التقوى بين أعيُننا وجلاءً لِقُلوبنا، قال -تعالى-: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، وقال -تعالى-: (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).
الخطبة الأولى
عباد الله، إن أيام التشريق هي الأيام المعدودات التي ذكرها اله -سبحانه- فقال: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ)، وهي أيام منى، والأيام التي حثّ الله ورسوله العباد على الإكثار من ذكر الله فيها على وجه الخُصوص؛ لعظيم فضلها، ومُضاعفة الأُجور فيها، فقد جاء في الحديث الصحيح: (أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ. [وفي رواية: زاد فيه «وذكرٍ لله»]).
وهذه أيام نعمة وفطر يحرم صيامها، وقد حثّ نبيّنا الكريم -عليه الصلاةُ والسلام- على الإكثار من ذكر الله في هذه الأيام، ويكون الذكر والتكبيرُ فيها مُقيداً بعد السلام من الصلاة المفروضة، وهو قول: "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد".
ويُسنُ فيها -أحبتي في الله- الأضحية، والتي يمتدُ وقتها إلى غُروب شمس آخرِ يومٍ منها، بالإضافة إلى ذكره سُبحانه بعد الأكل والشرب خاصةً في أيام التشريق، فقد قال النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا).
عباد الله، هنيئاً لمن كتب الله له الحج في هذه الأيام الفضيلة، والوقوف بالمشاعر المُقدسة، والطواف، والسعي، ورمي الجمرات، إلى غير ذلك من المناسك العظيمة، ونسأل الله أن يكتب لنا إياها ويعيننا على ذلك، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وقد جاء عن ابن عُمر أنه كان يُكبر وهو في منى فيسمعه الناس، فيُكبرون بتكبيره حتى ترجُ منى بتكبيرهم، قال -تعالى-: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّـهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ* وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
واستحب السلف للحاجِّ أن يُكثر في هذه الأيام من قول: "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"؛ لما في هذا الدعاء من جِماع الخير، فهو يجمع بين خيري الدُنيا والآخرة، ويجتمع في هذه الأيام للمؤمنين النعيم في أبدانهم بالأكل والشُرب، والنعيم في قُلوبهم؛ بكثرة ذكرهم وشُكرهم لربهم، وبذلك تتمُ عليهم نعمة الله، وقد وصفها الله -تعالى- بالأيام المعدودات؛ لقلة عددها، فلنُبادر إلى اغتنامها بالطاعات والتوجه إلى خالقه سُبحانه.
أيها المسلمون، إنّ ذكر العبد لربه من أعظم ما تحيا به روحه، وتسعدُ به نفسه، فيرتقي بها إلى خالقه، ويتقوى بها على طاعته، قال -تعالى- حاثّاً عباده على ذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)، كما أخبر النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- أن الذكر من أفضل ما يتقربُ به العبد من خالقه.
قال -صلى الله عليه وسلم-: (ألا أنبِّئُكُم بخيرِ أعمالِكُم، وأزكاها عندَ مليكِكُم، وأرفعِها في درجاتِكُم وخيرٌ لَكُم مِن إنفاقِ الذَّهبِ والورِقِ، وخيرٌ لَكُم من أن تلقَوا عدوَّكُم فتضرِبوا أعناقَهُم ويضربوا أعناقَكُم؟ قالوا: بلَى، قالَ: ذِكْرُ اللَّهِ -تَعالى- قالَ معاذُ بنُ جبلٍ: ما شَيءٌ أنجى مِن عذابِ اللَّهِ من ذِكْرِ اللَّهِ)، وحثّ الإسلام على ذكر الله في هذه الأيام؛ لما لها من فضلٍ، وشرفٍ، وميزةٍ عن باقي الأيام.
إخواني في الله، أيام التشريق أربعة أيام؛ تبدأ من يوم النحر وثلاثةُ أيامٍ بعده، وهو قولٌ عن ابن عباس، وقيل: إنها ثلاثةُ أيامٍ؛ وتبدأ بعد يوم النحر ، وعليه فيكون يوم العيد ليس منها، وهو قولٌ جاء عن ابن عُمر، بدليل أنه لا يجوز للحاج التعجل في ثاني أيام العيد، فلو كان يوم العيد منها لجاز له التعجل، فتكون أيام التشريق ثلاثة أيام، تبدأ من ثاني أيام النحر.
ويُسمّى اليوم الأول منها بيوم القر ؛ لأن الحاج يقرُ فيها بمنى؛ وهو أفضل أيام السنة بعد يوم النحر، لِقول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (أعظمُ الأيامِ عند اللهِ يومُ النَّحرِ، ثم يومُ القُرِّ)، وقد نالت أيام التشريق هذه المنزلة العظيمة؛ لقُربها من أيام العشر الأول من شهر ذي الحجة، ويقع فيها رُكنٌ من أركان الإسلام، وهو الحج إلى بيت الله الحرام.
ويُسنُّ في أيام التشريق الأكل والشرب، وإظهار السُّرور والفرح، وتوسعة المسلم على أهل بيته، وخاصةً في أكل اللحم، بشرط ألا يكونُ في ذلك إسرافٌ وتبذير، والذكر فيها يكون في جميع الأوقات والأحوال، ويتأكد بعد الصلاة المفروضة، ويستمرُ التكبيرُ فيها إلى عصر آخر يومٍ منها.
وشكر الله في هذه الأيام يكون بذكره، والابتعاد عن معصيته، وهكذا تكون الاستعانة بالأكل والشُرب على الذكر، فمن استعان بنعم الله على معاصيه فقد كفر بنعمة الله، يقول الشاعر:
إذا كنت في نعمة فارعها
- فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بشكر الإله
- فشكر الإله يزيل النقم
وجاء عن بعض العُلماء في أهمية الذكر والتكبير في هذه الأيام؛ أن المُسلم إن نسي التكبير بعد الصلاة فإنه يقوم بقضائه، فيُسنُّ للمُسلم الإكثارُ من التكبير، سواءً في بيته، أو في السوق، أو في المسجد؛ لما في ذلك من تعظيم لله وشعائره ، وإجلاله، وإظهار شعائره.
كما يُسنُّ فيها -أحبتي في الله- شُكر الله على ما أنعم به علينا من الأكل من لُحوم الأنعام، ومن شُكره إطعامُ الآخرين منها، لِقولهِ -تعالى-: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)؛ لما في أكلها من الاستعانة على طاعة الله.
وجاء عن ابن عبد البر اتفاق فُقهاء الأمصار على حُرمة صيام هذه الأيام ولو كان تطوعاً، بينما يرى جُمهور الفُقهاء والمُحدثين كراهة صيامها؛ لأنها من أيام العيد، ومن أعظم ما يتقرب به العبد إلى ربه في أيام التشريق اتباعه لسُنة الخليلين إبراهيم ومُحمد -عليهما الصلاةُ والسلام-، وهي الأُضحية.
وقد جاءت مشروعيتها في الكِتاب والسُنة، فمن الكتاب قوله -تعالى-: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)، فنحرص عباد الله أن نكون جميعاً من الذين يقضون أوقاتهم بذكر ربهم، وشُكره، وطاعته في هذا الأيام المُباركة.
وتتضاعف الأُجور في هذه الأيام؛ لأنها في الغالب أيام يغفل عنها الناس، والعبادة في أوقات الغفلة تكون أفضل من غيرها، وذلك كمن يقوم بالليل والناس نيام، فاشكروا ربكم عباد الله على أن أحياكم لإدراك هذه الأيام، وتزودا فيها من الصالحات، واغتنموها بالطاعات. وأقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم، إنهُ هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، نحمدهُ سُبحانه على ما سخره لنا من الأنعام، فقد بيّن لنا سُبحانه عظيم فضله بها علينا بقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ*وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ)، فقد سخرها لنا، وذلّلها، فينال الإنسان منها الأجر والتقوى بتطبيقه لسُنة نبيه -عليه الصلاةُ والسلام-.
وجاء النهي عن صيام أيام التشريق بعد العمل الصالح في أيام العشر الأول من شهر ذي الحجة ، وبعد قيام الحاج بمناسك الحج، إشارة إلى حال المؤمنين في الدنيا، فإن الدنيا كلها أيام سفر كأيام الحج، وهي زمان إحرام المؤمن عما حرّم الله عليه من الشهوات، فمن صبر في مدة سفره على إحرامه، وكفَّ عن الهوى، وانتهى سفرُ عمره ووصل إلى منى المُنى فقد قضى تفثه ووفى نذره، فصارت أيامه كلها كأيام منى، أيام أكلٍ، وشربٍ، وذكرٍ لله.
وأفضل ما يتزودُ به المُسلم في هذا الأيام؛ تقواه لربه، لِقوله -سُبحانه-: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ)، وأمّا ما يُسنُّ فيها من الأكل والشُرب؛ فهو استعانة به على التزوّد من الخير، والتقوى، والعمل الصالح، واعلموا يا عباد الله أن الأعمال بالخواتيم، وأن العبادة المختومة بالاستغفار أقرب إلى القبول، ووصل الطاعات ببعضها علامةٌ للقبول.
عباد الله، فلنتبع سُنة نبينا -عليه الصلاةُ والسلام- بالأُضحية، ولنُكثر من التكبير حتى انقضاء هذه الأيام، فقد جاء عن الإمام مالك: "أن التكبير فيها مسنونٌ للنساء والرجال، والعبيد والأطفال، والحاضر والمُسافر، ومن صلى جمعةً أو مُنفرداً، وأما المرأة فلا تجهر بالتكبير، ويكفيها إسماعُ نفسها سواءً كانت في المسجد أو في بيتها".
الدعاء
- اللهم تقبل منا صالح أعمالنا، وبلّغنا يوم عرفة وأيام التشريق ونحن في أفضل حال.
- اللهم اغفر لنا ذُنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على أعدائنا.
- اللهم إنّا ظلمنا أنفسنا ظُلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لنا مغفرةً من عندك، وارحمنا، إنّك أنت الغفور الرحيم.
- اللهم كفر عنا سيائتنا، وأقل عثراتنا، وضاعف حسناتنا، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
- اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقا معصوماً، ولا تجعل فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
- اللهم آتِ نُفوسنا تقواها، وزكها أنت خيرُ من زكاها، أنت وليُها ومولاها، ربنا اغفر وارحم، وتجاوز عما أنت به أعلم، إنك أنت الأعز الأكرم.
- اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، واجعله شافعًا وحجة لنا يوم القيامة، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.