خطبة جمعة عن الصبر على البلاء
مقدمة الخطبة
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصّمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أعطى كل شيء خلقه ثمّ هدى، الحمد لله في الأولى والآخرة، الحمد لله الذي حثّ عباده على الصبر، وعظّم للصابرين الأجر، وبشّرهم بدار المستقر، وأعظم لهم أجرهم، وأعلى مكانتهم.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وصفيّه وخليله، أدى الأمانة ونصح الأمة، وكشف الغمة، أعظم من صبر على البلاء، وخير من احتسب في السراء والضراء، وصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستنّ بسنته إلى يوم الدين، وبعد.
الوصية بتقوى الله
عباد الله.. أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإن تقوى الله رأس الأمر كله، فاتقوا الله وأطيعوه، وأحذركم ونفسي من عصيانه ومخالفته، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، إنّ من سنن هذا الكون ونواميسه التي لا تتغير ولا تتبدل في هذا الكون هو نزول الابتلاءات بالعباد، وتكدّر أحوال معيشتهم بين الفينة والأخرى، وهي أصناف وأشكال متعددة، لا يكاد يخلو إنسان منها، فالابتلاء قد يكون بالصحة، أو بالفقر، أو بالأولاد، أو الموت وغيره، قال الله -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ).
وإنّ هذه الابتلاءات امتحان للمؤمنين، ولا تستطيع كل الأنفس احتمالها، فصنف من الناس تضيق به الدنيا ذرعاً عند نزول البلاء، فيجزع ويسخط ويتذمّر، فهم يعجزون عن تحمّل ما نزل بهم، ويتذمّرون من قدر الله -تعالى- وقضائه، فتراهم يتفوّهون بما لا يليق، ويصدّون عن سبيل الله -تعالى-، فيزيدهم الله -تعالى- ألماً وتسخّطاً، فتعظُم مصيبتهم، وتزيد ذنوبهم.
أمّا أصحاب العقول يا رعاكم الله، فتراهم عند النوازل صابرين محتسبين، لا يتسخّطون ولا يتذمّرون، وبدمع العين يكتفون، والرضا التام في قلوبهم يستحضرون، فتهدأ نفوسهم وتسكن قلوبهم لما استقبلوا ابتلاءهم بنفس راضية.
واستحقّوا من الله -تعالى- المرتبة العالية، فحظوا بخير ما يحظى به العبد، ألا وهو محبة الله -تعالى- لهم، ومعيته لهم، وقد قال المولى في حقّهم: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين).
إخوتي في الله، إنّ المؤمن أمره كلّه خير، فإن أصابته سرّاء شكر، وإن أصابته ضرّاء صبر، وكلاهما له خير، أتدرون لم الصبر على البلاء هو الخير كله؟ لأنّ الله -تعالى- بشّر الصابرين ببشرى عظيمة، قال الله -تعالى-: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
والأجر المترتب على الصبر على الابتلاء لا يكون عند البلاء العظيم فقط، بل إنّ الشوكة التي تصيب المسلم، أو الصداع اليسير الذي يصيب رأسه ليؤجر عليه إن صبر العبد واحتسب، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ).
عباد الله، بارك الله لنا ولكم بالقرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بآياته وأحاديث نبيه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فيا فوز المستغفرين استغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلوات ربي وسلامه على عباده الذين اصطفى، الحمد لله الذي خلق الموت والحياة، ليبلوا عباده أيهم أحسن عملاً، الحمد لله الذي جعل عظم الجزاء مع عظم البلاء.
عباد الله، إن من رحمة الله -تعالى- بعباده أن هيّأ لهم نزول البلايا قبل أن تحل بهم، وأخبرهم بوقوع المصائب قبل وقوعها عليهم، وإنّ هذه الحياة الدنيا لهي محط ابتلاء، فلم يسلم من البلاء أحد، لا الأنبياء ولا الرسل، ولا الصحابة ولا الأخيار، لكنهم كانوا جبالاً من الصبر في وجه البلايا، فاصبروا واحتسبوا، فإنكم ستأتون يوم القيامة من باب الصابرين، وإنكم لتحشرون مع الأنبياء والمرسلين.
أيها المسلمون كل البلايا والمصائب تهون، أمام الابتلاء في الدين، فاحمدوا الله -تعالى- وإن نقصت أموالكم، أو مرض أولادكم، وإن غاب أحبابكم، وإن تعسّرت أعمالكم، فاعلموا أنّ الدنيا دار فناء زائلة، وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تساوي شيئاً لما سقى منها كافر شربة ماء.
واسألوا الله -تعالى- الصبر والتحمّل، وانظروا في سيرة النبي محمد خير الرسل، كيف بأبي وأمي كل هذا الأذى والأسى من قومه تحمّل، وبالصبر والحلم تجمّل.
الدعاء
عباد الله إني داعٍ فأمّنوا:
- ندعوكَ يا الله بما دعاك به نبيك محمّد -صلى الله عليه وسلم- حين ضاقت عليه الأرض بما رحبت: اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا وهواننا على الناس، إلى من تكلنا إلى ضعيف يتجهمنا أم إلى قريب ملكته أمرنا، إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي.
- اللهم ارزقنا الصبر على البلاء، ونعوذ بك من شماتة الأعداء، وسوء القضاء، اللهم اجعلنا ممن تقول لهم في الآخرة: سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار.
- اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوّل عافيتك، وفُجأة نقمتك، وجميع سخطك، اللهم اغفر لنا كلمة خرجت في حالة غضب أو تصرف في حالة سخط، ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
- اللهم انصر عبادك المسلمين في كل مكان، وثبت أقدامهم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، وصلّ اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.