حكم قراءة القرآن بالقلب دون تحريك الشفاه
القرآن نور ودستور
القرآن الكريم كتاب الله الخالد، محفوظ بأمر الله -تعالى- من التغيير، والتحريف، جعله المولى -سبحانه- خاتم الكتب الإلهية إلى البشرية، وأنزل فيه من التشريعات والأحكام ممّا يُنير درب الناس، ويهديهم صراط الله المستقيم، فمَن قال به صدق ، ومَن حكم به عدل، ومَن عَمِل بِهأُجِر؛ فهو الفصل وليس بالهزل، تنزيل من لدن حكيمٍ خبيرٍ، وقد أكرم الله من قرأه، وتدبّر أحكامه بعميم الفضل والأجر، والمسلمون يُقبلون عليه تلاوةً، وتدبّراً، وحفظاً، وتفسيراً، وقد أشغل القرآن منذ تنزّله على قلب النبي -صلّى الله عليه وسلّم- بال المسلمين؛ فقضوا فيه وقتهم، وأعملوا في عظيم دلالاته فكرهم، وسطّروا في كتبهم ما فقهوه وعلموه؛ فنشأتْ تبعاً لذلك علوم كثيرة، كلّها تلتمس نفع العباد بالكشف عن كنوزه العميقة، ومعانيه الكبيرة، وتحتوي المكتبات الإسلامية اليوم مصنفات ضخمة في علوم القرآن الكريم وتفسيره ، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم أسباب النزول، وبلاغة القرآن الكريم وأوجه إعجازه ، مثلما تخصّصت بعضها بعلوم القرآءات القرآنية وأوجها، وأسانيدها المتواترة، وانشغل آخرون بتقرير علوم تلاوته وتجويده، وأحكام ترتيله على الوجه الذي تواتر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد تنوّعت طرائق مدارسة آياته؛ بسبب إقبال المسلمين عليه، وتلهّفهم للقرب منه، حتى غدا بعضهم يردّد آياته في خاطره وسريره نفسه؛ فما حكم هذا النوع من القراءة؟
حكم قرآءة القرآن بالقلب
بيّن العلماء منزلة قرآءة القرآن بالقلب دون تحريك للشفتين ، وهل تعدّ هذه قراءة، أم يشترط لها شروط، وبيان ذلك على النحو الآتي:
- لا بدّ من تحريك اللسان في الأذكار التي يردّدها المسلم، مثل: قراءة القرآن ، والتهليل، وتسبيح الله، وتحميده، وشكره، وكذلك أذكار الصباح والمساء، والأذكار المأثورة الأخرى، وغيرها، ولا يعدّ المرء قد قالها إلّا إذا تحرّك بها لسانه، وقيل: إنّما القراءة ما تحرّك بها اللسان.
- قال الإمام الكاساني في كتاب بدائع الصنائع في معرض الاستدلال على ضرورة تحريك اللسان بالذكر نطقاً بالحروف المكونة له بعدم جواز صلاة المصلّي القادر على النطق إذا لم يحرّك لسانه بالقراءة والذكر؛ لأنّه لم يقرأ، وإنّما فكّر بها، واستحضرها في نفسه، ولو أنّ أحدهم حلف ألّا يقرأ من كتاب معيّن، ثمّ نظر فيه، ووعى محتواه، وردّد كلماته في خاطره لا يعدّ حانثاً بيمينه؛ لأنّ النظر لا يسمّى قراءة.
- من الأدلة التي تؤكّد المعنى السابق أنّ أهل العلم أفتوا بنهي مَن أصابته جنابة عن قراءة القرآن بلسانه، بينما أباحوا له النظر في المصحف ، وأن يقرأ القرآن بالقلب دون حركة اللسان دون مسّ له، ممّا يدلّ على أنّ بين الحالتين فرق، وأنّ تحريك اللسان بالحروف هو معتمد إطلاق وصف القراءة.
- بناء على ما سبق فإنّ قراءة القرآن بالعين، وحضورها في القلب من غير تحريك اللسان والشفتين لا تعدّ قراءة له، ولذا لا يتحصّل من يفعل ذلك على أجر قراءة القرآن، ولكنّ العلماء صنّفوا هذه الصورة من باب تدبّر القرآن الكريم وآياته، وهي صورة يُؤجر المسلم عليها ويُثاب، وأفضل الذكر ما كان باللسان مع حضور القلب؛ فترك الذكر باللسان مع حضور القلب ترك للأفضل.
- الجهر بقراءة القرآن الكريم ليست شرطاً لتحقيق معنى القراءة التي يُؤجر عليها المسلم، وإنّما يُكتفى لذلك بتحريك اللسان، ولو لم يكن الصوت مرتفعاً بالقراءة.
- الأصل بالمسلم ألّا يكتفي بتحقيق شرط القراءة عن طريق تحريك اللسان بها؛ بل الأفضل والأكمل في قرآءة آيات القرآن أنْ يستجمع القلب معاني القراءة باللسان.
- يكون الإسرار في القراءة في بعض الأحوال أولى من الجهر به، حيث تناول أهل العلم هذا التمايز من دلالات قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: (الجاهرُ بالقرآنِ كالجاهرِ بالصدقةِ، والمسرُّ بالقرآن كالمسرِّ بالصدقةِ)، فقالوا:
- إنّ الإِسرار في قراءة القرآن تكون أفضل في حقّ مَن يخاف على نفسه الرياء ، خلافاً لمن لا يخشى رياءً؛ فالجهر في حقّه أفضل.
- الأفضلية بالجهر لا تتحقّق لمن آذى بها غيره؛ كالمصلّي، أو النائم، أو غيرهما.
أنواع ذكر الله ومظاهرها
تقرّر في الشرع الحكيم أنّ من أشرف أعمال المسلم ذكر الله عزّ وجلّ، وأنّ طرائق الذكر لا تقتصر على الذكر باللسان؛ بل قد يكون الذكر بالقلب، واللسان، والجوارح أيضاً:
- الذكر المطلق: هو ما من شأنه أن يقرّب العبد من مولاه سبحانه، سواءً كان عقيدة صحيحة راسخة، أو فكراً وتأملاً في ملكوت الله ، أو عملاً قلبيّاً، ونوايا خيّرة، أو عملاً بدنيّاً وحركة جسدية، أو ثناء على الله وتمجيد له، أو وقت يقضى في تعلّم علم نافع أو تعليمه، ونحو ذلك، فكلّه ذكر لله.
- الذكر بالقلب عدّه أهل العلم أصلاً أصيلاً لكلّ ذكر بعده، وهو أساس صلاح ذكر اللسان، والجوارح، والأركان؛ فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن في الجسدِ مُضغَةً: إذا صلَحَتْ صلَح الجسدُ كلُّه، وإذا فسَدَتْ فسَد الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلبُ)، فمدار قبول الأعمال كلّها على ذكر وحضور القلب ، وهذا المعنى تأكيد لقول الله سبحانه: (وَلا تُطِع مَن أَغفَلنا قَلبَهُ عَن ذِكرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمرُهُ فُرُطًا)، وكأنّ ذكر الله بدون حضور ذلك في القلب كالجسد الخاوي، والخالي من الروح.
- أنواع الأذكار المطلقة وأمثلتها:
- الذكر بالقلب: ومثاله التفكّر في آلاء الله تعالى، ورسوخ محبته، وتعظيمه، وإجلاله، والإنابة إليه، والخوف من معصيته، واعتماد القلب عليه، ونحو ذلك من أعمال القلوب.
- الذكر باللسان: ويشمل كلّ نطقٍ وقول يُقرّب من الله، وأعلى الذكر وأفضله على الإطلاق قول العبد: لا إله إلا الله، وتتعدّد صوره بالأذكار المأثورة الكثيرة، وغيرها.
- الذكر بالجوارح: حيث إنّ كلّ فعل يقرّب العبد إلى الله هو ذكرٌ بالجوارح، ومثاله: إقامة الصلاة ، والجهاد في سبيل الله، ومدافعة العدو، وإيتاء الزكاة ، وغير ذلك من الأعمال التي مبناها على الحركة كلّها ذكر لله؛ لأنّ العبد يقوم بها على وجه الطاعة والتعبد ؛ فيكون حينئذ ذاكراً لله بهذا العمل، حيث قال الله سبحانه: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)..