حكم اللعان
حُكم اللعان
تناول أهل الفقه مسألة حُكم اللعان، وفصّلوا في الأسباب الموجبة له، وخلاصة ذلك فيما يأتي:
- الشافعيّة: قالوا بأنّ اللعان لا بدّ من وقوعه بين الزوجَين؛ لدفع ما اتُّهِمت به الزوجة من الزِّنا، أو من نَفْي حَمْلها، ولا يجب اللعان على الزوج إلا لنفي نسب ولد أو حمل علِم أنّه ليس منه.
- الحنفيّة: قالوا بوجوب اللعان؛ بسبب اتّهام الزوج لزوجته بارتكاب فاحشة الزِّنا، استدلالاً بقول الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّـهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ*وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّـهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)، فكان قذف الزوجة أحد الأسباب المُوجِبة لوقوع اللعان بين الزوجَين.
- المالكيّة: قالوا بوجوب اللعان بين الزوجَين في ثلاث حالاتٍ؛ الأولى: رؤية الزوج لزوجته زانيةً، والثانية: نفي الزوج حَمْل زوجته منه، والثالثة: قَذْف الزوج لزوجته، واتّهامها بارتكاب الزنا دون رؤيتها زانيةً، ودون نَفْي الحَمل.
- الحنابلة: قالوا بجواز وقوع اللعان بين الزوجَين؛ لإسقاط حَدّ القذف عن الزوج؛ بسبب قَذفه لزوجته.
مشروعيّة اللعان
اللعان في اللغة: من اللعْن، ويعني: الطَرْد، والإبعاد؛ فلَعْن إبليس يعني: طرده من الجنّة، يُقال: "لاعَنَ الزوج زوجته"، أو "تلاعنَ الزوجَان"، أو "التعنا". وهو تعريف اللعان في الاصطلاح الشرعيّ: هو ما يكون بين الزوجين من الأيمان والشهادات المؤكّدة في أحوالٍ مخصوصة؛ وهي عند اتّهام الرجل لزوجته بالزِّنا مع عدم وجود دليل على ذلك، أو عند نَفْي الرجل نَسَب الولد إليه، وإنكار زوجته هذا الادّعاءات إنكاراً تامّاً، ويتمثّل بشهاداتٍ بين الزوجَين، مُقترنةً باللعْن من طرف الزوج ، وبالغضب من طرف الزوجة.
وقد ثبتت مشروعيّة اللعان في القرآن الكريم ، والسنّة النبويّة، وإجماع العلماء، وقد شُرِع لإسقاط حدّ الزنا عن الزوجة، والذي قد يُثبته الزوج عليها، وذلك فيما يأتي:
- الأدلّة من القرآن الكريم: قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّـهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ*وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّـهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ).
- الأدلّة من السنّة النبويّة: ما أخرجه الإمام البخاريّ في صحيحه عن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما-: (أنَّ هِلالَ بنَ أُمَيَّةَ، قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بشَرِيكِ ابْنِ سَحْماءَ، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: البَيِّنَةَ أوْ حَدٌّ في ظَهْرِكَ، فقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إذا رَأَى أحَدُنا علَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ البَيِّنَةَ، فَجَعَلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: البَيِّنَةَ وإلَّا حَدٌّ في ظَهْرِكَ فقالَ هِلالٌ: والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ إنِّي لَصادِقٌ، فَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ ما يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ الحَدِّ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وأَنْزَلَ عليه: {والذينَ يَرْمُونَ أزْواجَهُمْ} فَقَرَأَ حتَّى بَلَغَ: {إنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فانْصَرَفَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأرْسَلَ إلَيْها، فَجاءَ هِلالٌ فَشَهِدَ، والنبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أنَّ أحَدَكُما كاذِبٌ، فَهلْ مِنْكُما تائِبٌ ثُمَّ قامَتْ فَشَهِدَتْ، فَلَمَّا كانَتْ عِنْدَ الخامِسَةِ وقَّفُوها، وقالوا: إنَّها مُوجِبَةٌ، قالَ ابنُ عبَّاسٍ: فَتَلَكَّأَتْ ونَكَصَتْ، حتَّى ظَنَنَّا أنَّها تَرْجِعُ، ثُمَّ قالَتْ: لا أفْضَحُ قَوْمِي سائِرَ اليَومِ، فَمَضَتْ، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أبْصِرُوها، فإنْ جاءَتْ به أكْحَلَ العَيْنَيْنِ، سابِغَ الألْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، فَهو لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْماءَ، فَجاءَتْ به كَذلكَ، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لَوْلا ما مَضَى مِن كِتابِ اللَّهِ لَكانَ لي ولَها شَأْنٌ).
- الأدلّة من إجماع العلماء: أجمعت الأمّة الإسلامية على مشروعيّة اللعان بين الزوجَين، ودون إنكار أحدٍ منهم.
كيفيّة اللعان
يقع اللعان بين الزوجَين بقول الزوج: "أشهد بالله أنّي لمِن الصادقين، فيما رمَيت به زوجتي من الزنا"، ويكرّرها أربع مرّاتٍ، ويقول في المرّة الخامسة: "إنّ لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين فيما رمَيتها من الزنا"، مع الإشارة إلى أنّه لا بدّ من ذِكْر الزوج لاسم زوجته، أو الإشارة إليها إن كانت حاضرةً، أو تمييزها بأيّ صفةٍ خاصّةٍ بها، وتردّ الزوجة عليه بقولها: "أشهد بالله أنّه من الكاذبين فيما رماني به من الزنا"، وتكرّرها أربع مرّاتٍ، وتقول في الخامسة: " إنّ غضب الله عليها إن كان من الصادقين"، وتُشير إليه، أو تذكر اسمه، أو تُميّزه عن غيره.
أركان اللعان
ذهب الحنفيّة بأنّ للّعان ركنٌ واحدٌ يتمثّل باللفظ؛ أي الشَّهادات، والأَيمان، واللعن بين الزوجين، وذهب جمهور أهل العلم إلى أنّ للّعان أربعة أركانٍ، وهي:
- المُلاعِن: وهو الزوج؛ فلا بدّ من قيام علاقةٍ زوجيّةٍ له مع امرأةٍ، وإن لم يتحقّق الدخول بها، وإن كانت أيضاً في عدّةٍ من طلاقٍ رجعيٍّ.
- المُلاعِنة: وهي الزوجة التي اتُّهمت بالزِّنا، وهي مَن لها الحقّ في طلب اللعان بينها وبين زوجها.
- اللفظ: أي الصيغة التي تتمّ بها المُلاعنة بين الزوجَين.
- السبب: أي الأمر الذي أدّى إلى وقوع اللعان بين الزوجَين، ويتمثّل إمّا بالقذف بالزِّنا، أو بنَفْي نَسَب الولد.
شروط اللعان
يشترط لصحّة وقوع اللعان شروط عدّة، لا يصحّ اللعان بدونها، وقد تناول أهل العلم بالبحث هذه المسألة، وبيان ذلك فيما يأتي:
- قيام الزوجيّة الصحيحة: فلا بُدّ منها في اللعان، وتحقّقها؛ سواءً حُكماً، أو حقيقةً، بالدخول بالزوجة، أو عدمه، وتجدر الإشارة إلى أنّ للزوج قذف زوجته المُطلّقة طلاقاً رجعيّاً خلال العدّة، كما بيّن ذلك المذهب الحنفيّ، أما في الطلاق البائن فيُشترط لوقوع الحدّ أن تكون الزوجة مطلّقة طلاقاً بائناً، فإن قذفها ثم طلقّها طلاقاً بائناً لا يقع عليه الحدّ؛ وذلك لأنه قذفها وهي زوجة له ثمّ طلّقها، فيحصل الفراق بالطلاق البائن، وإن طلّقها طلاقاً بائناً ثم اتّهمها بالزنا بغير دليل، فهنا يقع عليه الحد؛ وذلك لأنه طلّقها وهي بائنة منه، ومثال على ذلك: إن قال الزوج لزوجته: "يا زانية أنتِ طالق ثلاثاً"، لا يُقام حدّ القذف؛ وتجب الفُرقة بينهما، أمّا إن قال لها: "أنتِ طالق ثلاثاً يا زانية"، فيجب الحَدّ عليه؛ لأنّه قذفها وهي مُطلّقةٌ منه طلاقاً بائناً، واشترط المالكيّة العلاقة الزوجيّة؛ سواءً في عدّة الطلاق الرجعيّ، أو البائن، دون النظر إلى صحّة عقد الزواج أو فساده عند الشافعيّة أيضاً.
- الأهليّة للشهادة: اتّفق العلماء على أنّ اللعان لا يصحّ من الصبيّ، أو المجنون؛ لأنّهما غير مُكلَّفَين، فلا بدّ أن يكون الزوجان أهلاً للشهادة كما بيّن ذلك الحنفيّة، أمّا المالكيّة فاشترطوا أن يكون الزوجان عاقلَين بالغَين مُتمتّعَين بالأهليّة، دون النظر إلى عدالتهم أو فِسقهم، مع اشتراط إسلام الزوج، أمّا الشافعيّة فقالوا بأنّ مَن يصحّ منه اليمين، يصحّ منه اللعان، فيصحّ على سبيل المثال من الأخرس.
- أمر الحاكم: إذ إنّ اللعان يقوم بشهادة الشهود، ويُستحَبّ أن يكونوا أربعة.
- القذف والإنكار: فاللعان لا يقوم دون قذف الرجل لزوجته، وإنكارها، ويشترط في قبول لعانها أنْ تكون مشهورة بعفّتها.
امتناع أحد الزوجَين عن اللعان
ذهب جمهور أهل العلم في مسألة امتناع أحد الزوجين عن الملاعنة إلى ترتُّب حَدّ القذف؛ إذ إنّه عِوضٌ عن حدّ الزِّنا، فلا ينجلي الحَدّ إلّا باللعان، فإن اتّهم الزوج زوجته بالزنا دون بيّنة، أُقيم عليه الحدّ، إلا إذا تمّت الملاعنة بينهما بالأيمان والشهادات المؤكّدة، لقوله -تعالى-: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ)، فحينئذٍ تكون الملاعنة بديلاً عن حد الزنا، وذهب الحنفيّة إلى أنّ الزوج يُحبَس حتى يُلاعن زوجته، أو إلى أن يُكذّب ما اتّهم به زوجته، وإلّا فيُقام عليه حَدّ القذف، أمّا امتناع الزوجة عن اللعان، فيترتّب عليه حَبسها إلى أن تُلاعن زوجها، أو تُقِرّ بما ادّعى به زوجها عليها، فإن أقرّت قوله، فلا يُقام عليها الحَدّ، ويُخلّى سبيلها؛ لقول الله -تعالى-: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ).
الآثار المُترتِّبة على اللعان
الآثار المُتعلِّقة بالزوجَين
إسقاط الحدّ
يسقط حدّ القذف عن الزوج إن تلاعن مع زوجته، وكذلك يسقط عن الزوجة المُلاعِنة حدّ الزنا.
التفريق بين المتلاعنَين
بيّنت السنّة النبويّة أنّ الزوجَين المتلاعنَين يُفرَّق بينهما على وجه التأبيد؛ للبغضاء، والقطيعة التي وقعت بينهما، فإن كان الزوج صادقاً على سبيل المثال، فإنّه قد تسبّب بفَضْح الزوجة، وإشاعة الفاحشة، وذلك أمام الشهود، وإن كانت المرأة صادقةً على سبيل المثال، فتكون بذلك قد كذَّبته أمام الشهود، ووجبت عليه اللعنة، وإن كانت كاذبةً فقد خانته، وبذلك قد تحصل بين الزوجين البغضاء، والنفرة، والوحشة، وذلك يُخالف الأصل في الحياة الزوجيّة القائمة على السَّكَن، والمَودّة، والرحمة، أما وقت التّفريق بين الزوجين الناتج عن الملاعنة؛ فآراء أهل العلم فيه كما يأتي:
- القول الأوّل: قال الشافعيّة بوقوع الفُرقة بين المتلاعنَين بمُجرَّد مُلاعنة الزوج، حتى وإن لم تُلاعنه الزوجة.
- القول الثاني: قال الإمام مالك بأنّ التفريق بين الزوجَين بسبب اللعان يقع بتمام مُلاعنة الزوجَين.
- القول الثالث: قال الإمام أبو حنيفة، والإمام أحمد بأنّ التفريق باللعان لا يقع إلّا في حال تمام اللعان، وتفريق الحاكم بينهما.
أمّا إن كذّب الرجل نفسه بعد وقوع الملاعَنة بينه وبين زوجته، ففي ذلك خلافٌ بين العلماء، وتفصيله فيما يأتي:
- القول الأوّل: قال جمهور العلماء من الشافعيّة، والمالكيّة، والحنابلة بأنّ الزوجة لا تحلّ لزوجها إن تفرّقا باللعان ثمّ كذّب الزوج نفسه؛ لأنّ الفُرقة بينهما وقعت مُؤبّدةً.
- القول الثاني: قال الحنفيّة بأنّ الزوج الذي كذّب نفسه بما اتّهم به زوجته من ارتكاب الزِّنا يحقّ له إرجاع زوجته إذ أُقِيم عليه حَدّ القذف؛ إذ لم يَعُد مُلاعِناً، وإنّما كاذباً.
الآثار المُتعلِّقة بالأولاد
يترتّب على اللعان بين الزوجَين نَفْي نَسب الولد ، وإلحاقه بوالدته، علماً بأنّ نَفْي نَسَب الولد تُشترَط فيه عدّة أمورٍ، هي:
- الفوريّة: أي أن ينفي الزوج نَسَب الولد عند الولادة، أو خلال مُدّة تهنئة الناس به دون تقديرها بمُدّةٍ مُحدَّدةٍ، وذلك ما اشترطه الإمام أبو حنيفة، وقدَّرها أبو يوسف ومحمد بن الحسن بأكثر من مدّة النَّفاس المُقدَّرة بأربعين يوماً عندهم؛ فالنفاس أثرٌ للولادة، فيأخذ حُكمها، أمّا الشافعيّة، والمالكيّة، والحنابلة فقالوا بالتعجيل في نَفْي نَسَب الولد، وإن كان يعلم منذ بداية الأمر، ولم يذكره إلّا بعد اللعان، فإنّ حدّ القذف يُقام عليه؛ سواءً استمرّ سكوته مدّةً قصيرةً، أو طويلةً، إلّا إن عُذِر.
- عدم الإقرار: يُشترَط ألّا يُقرّ الزوج بالولد؛ سواءً كان الإقرار دلالةً، أو صراحةً، ومثال الصراحة أن يقول الرجل: "هذا الولد ولدي"، أو يقول: "هذا الولد منّي"، ومثال الدلالة: قبول التهنئة بالولد، أو سكوته عنها.
- حياة الولد: اشترط الحنفيّة أن يكون الولد حيّاً عند اللعان؛ فلو نفى الزوج الولد، ومات الولد قبل وقوع اللعان، فلا ينتفي عنه النَّسَب، ويحقّ للزوجة المطالبة باللعان إن مات الولد قبل تمام اللعان؛ لتُثبت عِفّتها، ووافق المالكيّة الحنفيّة في رأيهم، وأضافوا بأنّ للزوج طلب اللعان بعد موت الولد؛ ليسقط بذلك حَدّ القذف عنه، ولم يشترط كلٌّ من الشافعيّة، والحنابلة حياة الولد عند اللعان؛ لأنّ النَّسَب لا ينقطع بالموت؛ إذ يُقال: "مات ولد فلان"، كما قالوا بأنّ تكفين الولد على الزوج.