حديث كلكم راع
معنى كلكم راع
يدلّ الحديث على أمانة كلّ إنسانٍ ورعايته لِما هو تحت تصرُّفه، وعلى اختلاف هذه المسؤوليات والمواقع من أعلاها إلى أدناها، فقد وردت هذه القاعدة الشرعيّة في العديد من الأحاديث في صحيح البخاري، والحديث رواه ابن عمر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عن رَعِيَّتِهِ، الإمامُ راعٍ ومَسْؤولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ راعٍ في أهْلِهِ وهو مَسْؤولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والمَرْأَةُ راعِيَةٌ في بَيْتِ زَوْجِها ومَسْؤولَةٌ عن رَعِيَّتِها، والخادِمُ راعٍ في مالِ سَيِّدِهِ ومَسْؤولٌ عن رَعِيَّتِهِ قالَ: - وحَسِبْتُ أنْ قدْ قالَ - والرَّجُلُ راعٍ في مالِ أبِيهِ ومَسْؤولٌ عن رَعِيَّتِهِ، وكُلُّكُمْ راعٍ ومَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ)، والراعي هو الحافظ، والمسؤول الذي سيسأله الله -تعالى- عمّا هو تحت وصايته ومسؤوليته، والرعاية في أصلها تعود إلى رعي الأغنام التي يخرج بها صاحبها كي ترعى، ويحافظ عليها من أن تضِلّ أو تتعرض لهجوم.
وربط القرآن الكريم بين الأمانة والمسؤوليَّة في العديد من المواضع باعتبار أنَّ قيام الإنسان بالواجبات الموكّلة إليه في جميع الجوانب يتطلّب الأمانة، ولذلك قال -تعالى-: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لا تَخونُوا اللَّـهَ وَالرَّسولَ وَتَخونوا أَماناتِكُم وَأَنتُم تَعلَمونَ)، وبناءً عليه فقد اشترط الإسلام العديد من الشروط في المسؤول والتي تساعده على القيام بمسؤوليّته على أكمل وجهٍ، ولم يشترط ذلك على فاقد المسؤولية والأهلية؛ كالمجنون، وكلّ ما جاء به الإسلام من تكليفاتٍ يقع ضمن طاقة الإنسان، ولا يُحمّله الشّرع المسؤولية تجاه نفسه فحسب؛ بل تجاه نفسه وأسرته والمجتمع من حوله، وسواء كان ذكراً أم أنثى.
وقد وعد الله -تعالى- من قام على أمانته ومسؤوليَّته بالثواب الجزيل، ومن يفرّط فيها بالعقاب الشديد، فكلُّ مسؤولٍ سيُسأل عمّا وُكّل به أمام الله -تعالى- المطّلع على كل شيءٍ والذي لا تخفى عليه خافية، وحتى لو نجا من قوانين الدُّنيا فلن يستطيع أن ينجو من حساب الله -تعالى- وجزائه، والعاقل هو منْ يُجهّز نفسه لسؤال الله -تعالى- له عن ذلك، فيحضّر الإجابة التي ترضي ربّه حين يسأله عنها، بالإضافة إلى أنّ ذلك يؤثِّر ذلك على المجتمع بالمنفعة أو بالمضرّة بحسب قيام كلِّ شخصٍ بمسؤوليته بأمانة.
أنواع المسؤوليات المذكورة في الحديث
مسؤوليّة الحاكم تجاه شعبه
الحاكم محاسبٌ أمام الله -تعالى- عن كلِّ ما يقع منه من أخطاءٍ أو استغلالٍ لمكانته فيما ليس من حقِّه، وعلى التجاوز في استعمال سلطته، وإنّما تتحقّق إمامة الحاكم حين يتوّلى أمور رعيّته، ويتتبَّع احتياجاتهم، ويقف في صفّهم بالحقِّ، ويقيم حدود الله -تعالى- وأحكامه فيما بينهم، ويعدل في الحكم بينهم كما قال -تعالى-: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، ويسعى في قضاء حوائجهم الدينيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة، والأمنيّة، ويؤمِّن لهم ما يحتاجونه من المرافق العامّة؛ كالمساجد والمدارس والمستشفيات، ويولِّى عليهم من الأعوان من يخاف الله -تعالى- فيهم، مراعياً قول رسول الله -تعالى-: (مَن وَلِيَ منكم عملًا، فأرادَ اللهَ به خيرًا، جَعَلَ له وزيرًا صالحًا، إن نَسِيَ ذَكَّرَه، و إن ذَكَرَ أعانَه)، ويردُّ المظالم إلى أصحابها.
ويشمل ذلك إن كان الحاكم والياً على فئة قليلةٍ أو عامّةٍ كبيرةٍ من النّاس، ويكون الحاكم مسؤولاً عن رعيّته أيضاً من خلال نصحهم بما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم، فيجلب لهم الخير ويدفع عنهم الشرّ، ويساعدهم في ذلك، فيغلق ويسدّ ما يأخذ بأيديهم لمعصية الله -تعالى-، وهو مسؤولٌ على القضاء على الفساد والفراغ المؤدّي بالشّباب إلى ذلك، فيفتح لهم المجال للإبداع والترفّع بمستويات العلم كافَّةً، ويؤمِّن لهم الوظائف والأعمال التي تسهّل عليهم سبل العيش، وسيُسأل كذلك عن كلّ ما يقتضي السؤال عنه سواء في أمور الدين أو الدنيا، وعن رفقه برعيّته ولينه بهم، وإحسانه لهم.
مسؤوليّة الرَّجل تجاه أهله
تتضمّن رعاية الرَّجل لأهل بيته تدبيره لأمورهم، وإعطاءهم حقوقهم، والاجتهاد في إصلاحهم وجلب الخير لهم، وإبعادهم عمّا يُسبِّب لهم الهلاك والضَّلال؛ لأنّ في صلاحهم واستقامتهم السَّعادة وراحة القلب والطمأنينة له، وفي الإحسان إليهم إحسانٌ لنفسه، ومن واجباته المسؤول عليها الإنفاق عليهم، وحسن معاشرته لهم.
بالإضافة إلى تربية الأبناء تربيةً تقوم على المبادئ الإسلامية التي تصلحهم في دنياهم وآخرتهم، ويحسن معاملتهم، ويرفق بهم، وأن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويعلّق قلوبهم بطاعة الله -تعالى- وعبادته، ويكفل تعليمهم العلوم الدينية والدنيويّة ومكارم الأخلاق، وتشمل هذه معظم واجبات هذه المسؤولية الأب والأم معاً، حيث إنّ دورهما معاً متكاملاً لا تناقض فيه.
مسؤوليّة المرأة تجاه أهل بيتها
جعل الإسلام المرأة مَلِكَة بيتها، وأوكل إليها مجموعةً من المهمّات وألزمها بها، وهي المسؤولة على السَّكينة في بيتها وتحقيق الاستقرار فيه، ويساعدها الزَّوج في تحقيق ذلك بإعطائها حقوقها، وهي القائمة على بيتها بما يُحقّق فيه الأُنس والرَّاحة والسّكن، ومسؤولة عن تربية أبنائها تربيةً تعينهم في دنياهم وآخرتهم.
وقد قال الجصاص في تفسير قول الله -تعالى-: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، أي أنّ ولاية المرأة على أولادها جعلها تنذر ما في بطنها، ولو لم يكن لها ولاية لما فعلت، ومن واجباتها تدبير أمور بيتها بما يرضي ربّها، لأنّها مسؤولةٌ عن ذلك يوم القيامة ، وأن تحافظ على مال زوجها، وتدبّر شؤون بيتها ورعيّتها، فتنال رضا الله -عزّ وجلّ-.
مسؤولية الخادم تجاه المخدوم
تتحقّق رعاية الخادم لمخدومهِ بعدة أُمور، منها ما يأتي:
- أن يتعهَّد المال الذي بيده له، ويُحافظ عليه، ولا يتصرّف به بأيِّ وجهٍ إلّا بما يسمح سيّده له في ذلك.
- أن يقوم بخدمته بما يحقّق له حاجته وعلى الوجه الذي يرضيه.
- أن يقوم بما وكّله سيّده إليه أحسن قيامٍ، لأنّه محاسبٌ عنه بين يدي الله -عز وجل- يوم القيامة.
- أن يكون أميناً على أهل بيته وولده، ويرضى له ما يرضى لنفسه، ويبعد عنه ما لا يرضاه لنفسه.
ثمار تحمّل المسؤولية ورعايتها
إنّ لتحمّل المسؤوليَّة فوائد وثمار كثيرة تعود على الفرد وعلى المجتمع، نذكر منها ما يأتي:
- الشعور بضرورة وأهميّة أداء الأمانة لأصحابها، سواءً كان ذلك أمام الخلق أم أمام الله -عز وجل-.
- الإخلاص في العمل، والاستمرار فيه، ونيل ثقة الناس واحترامهم.
- الشُّعور بالسَّعادة كلّما أدّى المسلم ما عليه بأمانةٍ.
- تماسك الشُّعوب وتعزيز قوَّتم والتعاون فيما بينهم.
- شعور الإنسان بحريَّة اختياراته وقراراته، ومساواته مع غيره من أفراد المجتمع.
- صلاح المجتمع الناتج عن صلاح الأفراد.
- الشعور بالمسؤوليَّة تجاه الآخرين، وأنَّ أيَّ تقصيرٍ سيؤدّي إلى أذيّة الغير، فيسارع الشخص إلى إزالة أسبابها وتجنّبها.