تفسير سورة الممتحنة
تحذير المؤمنين من موالاة الكافرين
ورد في سبب نزول الآية الأولى بأنها نزلت بسبب إرسال حاطب بن أبى بلتعة كتاباً فيه تحذير لأهل مكة المكرمة من أن رسول الله يتجهز ل فتح مكة المكرمة ، فأرسل رسول الله بعضاً من صحابته ليلحقوا بالكتاب قبل وصوله لأهل مكة، فوصلوا إلى سارة مولاة أبى عمرو بن صيفي، وهددوها بقتلها إن لم تسلم الكتاب.
قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ)، وبعد أن جاء الصحابة بالكتاب إلى رسول الله أرسل إلى بلتعة يستنكر منه ما قد فعل، وهو مسلم وممن شهد بدراً، فأوضح حاطب عن سبب فعلته بأنه كان في زمان أمره مجاوراً لقريشٍ.
وأوضح حاطب بن أبي بلتعة بأنه كان يريد بذلك أن يتّخذ سبباً يحمون قريش به عائلته، إذ لم يصدر منه ذلك عن كفر أو نفاق، وصدّقه رسول الله بذلك، قال -تعالى-: (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ).
ولكن الآيات الكريمة بينت بأن يوم القيامة لا ينفع الإنسان إلا عمله الصالح، فلا ينفعه يومئذ أهله وعشيرته، فعليه بنصرة الإسلام والمسلمين ولا يتخذ دون ذلك سبيلا، ففي الآية الكريمة نهي عن إلقاء أخبار رسول الله إلى الكافرين، حتى لو كان هناك ثمة صلة ومودة معهم، أو بغية أهداف شخصية أخرى.
وهذا شامل في إيصال أسرار المسلمين إلى أعداء الإسلام والمسلمين أيًّا كان الهدف، فمن يقدم على مثل هذا لأي سبب فقد أضله هواه عن الطريق، فهم إن لاقوكم وتمكّنوا منكم فسيشبعونكم قتلاً وشتماً، وما في قلوبهم سوى رغبتهم بكفركم بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، قال -تعالى-: (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ).
قصة النبي إبراهيم والحث على الاقتداء به
ضرب الله -تعالى- مثلًا ب إبراهيم -عليه السلام- ومن آمن معه، وجعلهم أسوة حسنة للمسلمين ومثالًا لهم، قال -تعالى-: (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ)،
حيث إنهم قد تبرّأوا من الكفار، وأعلنوا عداوتهم لهم، إلى أن يعدلوا عن الضلال، ويهتدوا إلى التوحيد ، وبيّن الله -تعالى- دعاءهم حيث كانوا يقولون: يا رب لا تمكّن الكّفار علينا فيكون في انتصارهم علينا فتنة لهم وسببًا لطغيانهم.
وأما ما صدر من إبراهيم من دعائه لأبيه فهو صادر عن وعد أعطاه إبراهيم لأبيه، فلما تأكد نبي الله إبراهيم -عليه السلام- من إصرار أبيه عن الكفر، توقف عن الدعاء له، قال -تعالى-: (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).
حكم التعامل مع غير المسلمين
بينت الآيات الكريمة استثناءً في التعامل مع الكفّار، فأجاز حسن المعاملة والإحسان مع الكفّار الّذين لم يظهروا ولم يضمروا العداوة للدين الإسلامي، على الرغم من أن دينهم فيه معاداة للدين الإسلامي.
إلّا أن وصفهم هو عدم المظاهرة على إخراج رسول الله والمسلمين من ديارهم، وفي الآية الكريمة جواز التحالف مع الكافرين الراغبين ب ظهور دولة الإسلام ونهوضها، كحلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع بني خزاعة.
مبايعة المهاجرات من مكة إلى المدينة للنبي
تتحدث الآيات الكريمة بشأن مبايعة النساء اللواتي أسلمن فهاجرن من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، فعلى المسلمين التأكد من تمكن الإيمان في قلوبهن وعدم نفاقهن، مع التأكيد عليهم بأنّ الله -تعالى- وحده أعلم بحقيقة إيمان المسلم.
وعلى المسلمين إن غلب الظن لديهم بإيمانهن بألّا يرجعونهن إلى مكة المكرمة، لحرمتهن على أزواجهنّ، قال -تعالى-: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ).
وأمر المسلمين بإرجاع مهورهن إلى أزواجهن التي دفعوها إليْهنّ، وأحل للمسلمين الزواج بهن، فذمّتهن غير مشغولة بزواج؛ لتفريق الإسلام بينهن وبين أزواجهن، مع التنبيه على إعطائهن مهور، غير المهور المعادة إلى أزواجهم السابقين.