تفسير سورة الملك
تفسير آيات مظاهر عظمة ملك الله وخلقه
قال -تعالى-: (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ* الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ* وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ).
ابتدأت السورة الكريمة بتعريف المؤمنين على المظاهر الدّالة على عظمة الله -تعالى- في هذا الكون العظيم، وتفرُّده بالمُلك، والقدرة الإلهيّة المُطلقة وما في هذا الكون من بدائع صنعه الدالّة على تفرُّده سبحانه بالإلهيّة ، وبيانه بأنّه -سبحانه وتعالى- خالق كُلٍّ من الموت والحياة، لِيختبر الناس على ما سيصدر منهم من أعمال الخيرٍ والشرٍ خلال هذه الفترة.
وفي هذا التذكير موعظةٌ للمشركين، وفتح باب لهم لإعادة التفكُّر في دلائل القدرة الإلهيّة، وفيه تنبيهٌ للمؤمين بتكرار النّظر في دلائل عظمة الله -تعالى-، لِما في ذلك من تعميقٍ للإيمان به -سبحانه-، مع التّنبيه من عداوة الشياطين لبني آدم بسب اتّخاذهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- والقرآن منهجًا لهم في الحياة الدنيا، كما أشارت السورة إلى أنّ الكون خُلق بدقّةٍ متناهيةٍ ونظام رتيب، وأن الله -تعالى- قادر على إفساد ذلك النظام مثل ما كان قادراً على إيجاده.
وبالرغم من كل البراهين الدالة على وجود الله -تعالى- وقدرته ، ما زال هناك مشركين معاندين، لذا جاء توبيخهم في الآيات الكريمة، والتأكيد على أنَّ كُفرهم قائمٌ على عِنادٍ وحُجج واهيةٍ لا تصمد أمام البراهين مِقدار ذرّة، وأنَّهم لا يستطيعون الإدلاء بِحُججهم أمام توبيخ الملائكة لهم، وسيعترفون حينها بأنَّهم مستحقِّين للعذاب.
تفسير آيات مصير الكافرين
قال -تعالى-: (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ* إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ* تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ* قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ* وقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ* فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) .
بيّن الله -تعالى- من خلال رسله وكُتبه مصير الكفَّار العُصاة، منكري وجود الله -تعالى-، وبيّنت الآيات في سورة المُلك جزاء الكفَّار في استحقاقهم للعذاب من الله -تعالى-، وقد وصفت الآيات الكريمة النار الّتي تنتظر الكفَّار، بأنّها تغلي وتفور حنقًا ممن عصى الله -تعالى-.
كما وضحت الآيات ما سيحصل بين خزنة النّار والعصاة من سؤال الملائكة إياهم عن إرسال رسول لهم يحذّرهم مِمّا هم في من العذاب، وإجابة العصاة بأنّهم جاؤوهم ولكنّهم كذَّبوا الرسل، وفي ذلك توبيخ آخر لهم على تكذيبهم؛ إذ إنهم كذبوا الرسل وخبر اليوم الآخر، وذلك بسبب عدم تَحكيمهم لعقولهم، إلّا أنَّ الاعتراف بالخطأ جاء مُتأخراً وانقضى وقته.
تفسير آيات جزاء المؤمنين
قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ* أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
بيّنت الآية الكريمة الجزاء المنتظَر للفئة الثانية من الناس الّذين اختاروا طريق التوحيد والعبادة، والّذين كانت تميزهم خشيتهم لله -تعالى- ويقينهم بأنّه عالمٌ بالسّرِّ ولطيف لما أخفى هذا القلب، فالله -تعالى- مرشدهم الأول في ما يُريدونه من أقوال وأعمال، وهم يخشونه في السّرِّ كما في العلانية، لذا خافوا من عذاب الآخرة الّذي أخبرهم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكانوا بذلك هم المتّقون، الّذين لهم الجزاء الحسن العظيم المضاعف، والمغفرة الكبيرة.
تفسير آيات التفكر في السماء والأرض
قال -تعالى-:(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ* أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ* أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ).
بعدما وضّحت الآيات الكريمة ما ينتظر المتقين والكفار من الجزاء، انتقلت للحديث عن الأرض الّتي هيأها الله -تعالى- للناس، لكي يُمهّد لهم أسباب العيش والرزق، وأودعها أسباب الحياة، وذلك ليحسن لهم تأدية مَهمّة عمارة الأرض وعبادته ، لِئلا يكون لهم حُجّة على الله -تعالى-، ومن هنا كان الخطاب لعامّة الناس مُؤمنهم وكافرهم، فالأرض هُيأت لهم جميعًا، كما تم ذكر العديد من نعم الله -تعالى- عليهم، والّتي تستحقُّ أن نقابل الله -تعالى- بها بالتوحيد، والعمل الصالح.
كما أمر الله -تعالى- من البشر السّعي لطلب الرزق بالعمل الجادّ؛ فقد وضَع الله -تعالى- في الأرض خيرات عديدة في شتى أنحاء الأرض، وما على الناس إلّا السعي في الأرجاء ومدّ أيديهم للحصول على هذه الخيرات قدر استطاعتهم، كما يجب عليهم تسخّير كل ما وهبه الله -تعالى- لهم من الطاقات العقليّة والجسدية، وبهذا يأخذ الإنسان مكانته في الأرض الّتي تكسبه إنسانيته، وتُحقّق حُسْنَ استخلافه على الأرض .
تفسير آيات إقامة الحجج على المشركين
بيّنت الآيات الكريمة ما حلّ بالأقوام السابقة من عذاب وهلاك جرّاء تكذيبهم لإنبيائهم، والّذين جاؤوا بالمعجزات الواضحات، وفي ذلك إشارة إلى أنَّ الإنسان مهما بلغت قوته التي منحها الله -تعالى- له من قوّة جسديّة وعقلية، هو في نهاية الأمر عبد بيد الخالق الذّي بيده زمام أمور الكون، والخالق الّذي خلق الأرض وبثَّ فيها من الخيرات، قادر على نسفه وتغير نواميس الكون.
وفي الآيات توجيه للنبي -عليه الصلاة والسلام- بسرد الحجج والبراهين الدالّة على قدرة الله -تعالى-، وبهذا تُقام الحُجّة على الكافرين بوجود الله أو حتى بتفرُّده بالألوهيّة والربوبيّة، فسياق الآيات الكريمة بدأت بالعتب والاستنكار مُستخدمة نداء "أيها الناس"، معاتبة إياهم على عدم إيمانهم بوجود خالق لهذا الكون، ثمَّ انتقلت لأسلوب الأمر حتى تقتلع جذور الكفر من الناس؛ وبعد ذكْر نِعَم الله -تعالى- على الناس جاء الأمر بِشكر الله -تعالى- على نعمه، وبذلك يتجسد الشكر بالإيمان بالله -تعالى- وحده.