تفسير سورة المطففين
التحذير من التطفيف في الميزان
قال الله -تعالى-: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ* أَلَا يَظُنُّ أُولَـئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
التفسير: لمّا قَدِم الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أهل المدينة وجدهم يطفّفون في المكاييل والأوزان، فنزلت سورة المطففين للتحذير من هذا الفعل، ومعنى (ويل) فيه قولين، إمّا أنّه وادٍ في جهنم ، وإمّا أنّه دعاءٌ على المطففين بالهلاك، وفي ذلك دلالةٌ على شدّة التحذير والوعيد لمن يطفّف في الميزان، والتطفيف: هو نقص المكاييل والأوزان والتبخيس به، ويُعَدُّ التطفيف كبيرةً من الكبائر، فقد توعّد الله -تعالى- من يُنقِص في المكيال بالعذاب الشديد يوم القيامة.
قال -تعالى-: (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)؛ أي إنّ هؤلاء المطفّفين يقومون بأخذ حقوقهم ويستوفونها كاملة عندما يكيلون لأنفسهم، أمّا إن كان الكَيل لغيرهم فإنهم يُنقصون في المكيال ويطفّفون فيه ويأخذون أموال النّاس بالباطل، فهم بذلك يخونون الأمانة، وهذه الآيات تتحدّث عن سمات المطففين وأوصافهم.
عقوبة المطففين يوم القيامة
قال -تعالى-: (أَلَا يَظُنُّ أُولَـئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ* كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ* كِتَابٌ مَّرْقُومٌ).
التفسير: ألا يعلم أولئك المطفّفون أنهم سيُبعثون يوم القيامة، وأنهم سيحاسبون على غشّهم وفعلهم هذا عندما يقومون لربّ العالمين في مشهدٍ مهيب، وهم حفاةً، عُراة، فزعين من هَولِ هذا اليوم، يغمرهم العرق من شدة خوفهم من الله -عزّ وجل-، كلّا إنّ مصيرهم في سجّين؛ وسجين: هو بئرٌ في جهنم، وقد كُتِبَ عليهم هذا العذاب كتاباً مرقوماً؛ أي مفروغاً منه، لن يخلّصهم منه أحد.
عقوبة المكذبين بيوم القيامة
قال -تعالى-: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ* الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ* وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ* إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ* كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ* كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ* ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ* ثُمَّ يُقَالُ هَـذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ).
التفسير: توعّد الله -عزّ وجل- المكذبين بيوم القيامة بالعذاب الشديد والويل والهلاك؛ لأنهم كانوا يظنّون أنهم لن يُبعثوا ليوم القيامة ويُحاسبوا، فقد تمادَوا بفعل الآثام والمعاصي، وتعدّوا على حدود الله، وكانوا يكذبون بآيات الله ويقولون ما هي إلا أكاذيب وخرافات، فعاقبهم الله -تعالى- بالرَّين على قلوبهم وهو الغطاء، فحجبهم الله -تعالى- بذلك عن رؤية وجهه الكريم يوم القيامة، وليس ذلك فحسب بل سيجزيهم الله -تعالى- نار جهنم جزاء بما كانوا يفعلون، فهذا البعث والحساب الذي كانوا يكذّبون به في الدنيا.
صفات المكذبين بيوم القيامة
تضمّنت الآيات السابقة مجموعة من صفات المكذبين بيوم القيامة، نوردها فيما يأتي:
- إنّ أولئك المكذّبين بيوم الدّين معتدين على الحق متجاوزين لمنهج الله -تعالى- وحدوده، قال -تعالى-: (وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ).
- إنّهم مبالغون في ارتكاب الآثام والمعاصي والذنوب، قال -تعالى-: (وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ).
- إنّهم إذا جاءتهم آيات الله -تعالى- قالوا إنها مجرد أساطير وأكاذيب، قال -تعالى-: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ).
ثواب المؤمنين يوم القيامة
قال -تعالى-: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ* كِتَابٌ مَّرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ* إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ* عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ* تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ* يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ* خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ* وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ* عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ).
وقد تضمّنت الآيات السابقة ثواب المؤمنين يوم القيامة، فيما يأتي ذكرها:
- إن كتاب أعمال المؤمنين الذي دوّنته الملائكة في عليّين كنايةً عن الدرجات العالية المرتفعة تكريماً لهم، قال -تعالى-: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ).
- يحضر كتابهم و يشهد ما فيه يوم القيامة المقرّبون، قال -تعالى-: (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ).
- سيكون المؤمنون يوم القيامة في نعيم، يجلسون على الأسرّة مُكرّمين ينظرون لنعيم الله -عز وجل- وما أعدّه لهم، قال -تعالى-: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ* عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ).
- يرى من ينظر إليهم في وجوههم آثار التنعّم بنعيم الجنة وبهجته، قال -تعالى-: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ).
- يُسقَون في الجنة شراباً خالِصاً نفيساً لا غِشَّ فيه، وهو الرحيق المختومة أوانيه بالمسك، والممزوجة بالتسنيم؛ وهو عين ماءٍ في الجنة، وهو أرفع شرابٍ في الجنة، قال -تعالى-: (يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ* خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ* وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ* عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ).
سخرية الكفار من المؤمنين في الدنيا وندمهم في الآخرة
قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ* وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ* وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ* وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَـؤُلَاءِ لَضَالُّونَ* وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ* فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ* عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ* هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).
التفسير: لقد كان المشركين يستهزِئون بمن يمرُّ بهم من المؤمنين، ويجعلونهم محطّاً للسخرية والضحك، وقد وصفت الآية فعلهم هذا بالإجرام لِشدّة ما فيه من الإيذاء، فكأنّهم ارتكبوا جُرماً وإثماً عظيماً، ولم يكتفِ أولئك بالاستهزاء بهم في الطرقات والتغامز فيما بينهم للسخرية منهم وحسب، بل تعدّى ذلك لذكرهم لهم في بيوتهم وتلذُّذهم بهذا الفعل وفرحهم به.
ولم يكفِهم ذلك أيضاً، بل أصبحوا عندما يرَونهم في الطرقات يصفونهم بالضالين لأنهم تركوا دين آبائهم وأجدادهم، وما أرسلهم الله ليكونوا حكَماً عليهم ويصفونهم بالضلال. ثمّ ينقلب الحال يوم القيامة ويُبشّر الله -تعالى- المؤمنين بأنّه سيقتصُّ لهم يوم القيامة من أولئك المستهزئين، فسيضحك المؤمنون ممن استهزأ بهم وهم جالسون على الأرائك ينظرون إليهم وهم يُعذّبون في النار، وهذا هو جزاء الكفّار على صنيعهم في الدنيا.
ملخص المقال: ذُكر في المقال معنى التطفيف في الميزان، وهو التبخيس والإنقاص منه، وهو فعلٌ محرّمٌ، وقد توعّد الله من قام به بالعذاب الشديد، ثم عرض المقال عقوبة المطففين وعقوبة المكذبين بيوم القيامة وعدّد صفاتهم، ثم تطرّق لثواب المؤمنين يوم القيامة استخلاصاً من الآيات الكريمة، ثم ذكر موقف استهزاء المشركين بالمؤمنين ووصفهم بالضالين واقتصاص الله -تعالى- لهم يوم القيامة.