تفسير سورة المجادلة
تفسير آيات حكم الظهار
سبب نزول الآية
قال -تعالى-: (قَدْ سَمِعَ اللَّـهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّـهِ وَاللَّـهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ* الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّـهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ).
كان سبب نزول هذه الآيات أنّ أوس بن الصامت -رضيَ الله عنه- ظاهر من زوجته، أي قال: لها أنتِ عليّ كظهر أمي، وهذا يُسمّى ظهارًا، وكان يُعدّ طلاقًا في الجاهليّة، فجاءت زوجته وهي خولة بنت ثعلبة -رضيَ الله عنها- تشكي أمرها وتستفتي رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في وضعها، وتسأله عن حكم الإسلام في الظّهار.
فأخبرها رسول الله أنّها قد حُرّمت على زوجها -حيث لم يكن قد نزل شيء بخصوص الظّهار-، فاشتكت ذلك إلى ربّها وحزنت لما جرى معها، فنزلت هذه الآيات، وبيّن الله -تعالى- فيها أنّ الظّهار ليس بطلاقٍ وإنّه منكر وزور؛ لأنّ الرجل يجعل زوجته عليه كأمّه، وليست الزوجة كالأم، ولا يجب بالمسلم أن يلجأ لمثل هذه الأقوال، ولكنّ الله -عزّ وجلّ- عفوّ غفور ومن عفوه تشرع الكفّارة لعباده.
تفسير الآية
قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
تُفصّل الآية السابقة كفّارة الظهار، فالمشروع أنّ من ظاهر من امرأته ثمّ أراد العودة إليها فعليه أن يُكفّر، والكفّارة تكون بتحرير رقبة ؛ أي إعتاق نفس مملوكة، فمن لم يقدر على هذا يصوم شهرين متتابعين، فمن لم يتمكّن يُطعم ستين مسكينًا، وهذا من الحدود التي لا تهاون فيها، والكفارة تكون قبل الجماع كما ذُكر في الآية.
تفسير الآيات المتعلقة بغير المسلمين
تعرّضت سورة المجادلة في بعض آياتها للحديث عن الكافرين وعن نتيجة موالاتهم وعن مصيرهم في الآخرة، وتفصيل ذلك فيما يأتي:
عقوبة معاداة الله وسوله
قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ* يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّـهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّـهُ وَنَسُوهُ وَاللَّـهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
يُبيّن الله -عزّ وجلّ- في هذه الآيات أنّ الذين يعادون الله ورسوله ويخالفون أمرهم سيُخزون ويخذَلون كما خُذل وأخزي من عادى الأنبياء قبلهم، فالله -تعالى- أنزل آيات تُبرهن على صدق رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، وحذّر من يكفر بهذه الآيات ويجحد بالعذاب الذي يهينه ويُذلّه، ويكون هذا الجزاء للكافرين جميعًا أمام بعضهم ليزيد في خزيهم وخجلهم، حيث يبعثهم الله -تعالى- ويُذكّرهم بأعمالهم التي كتبها وأحصاها عليهم.
عقوبة موالاة الكافرين
قال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّـهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أَعَدَّ اللَّـهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّـهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ* لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّـهِ شَيْئًا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّـهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ* اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّـهِ أُولَـئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ).
يُخبر الله -تعالى- في هذه الآيات عن حال المنافقين الذين والوا الكفّار وأظهروا لهم المودّة، وأخفوا كفرهم فأظهروا الإيمان وحلفوا عليه أيمانًا باطلة يظنون أنّها ستنجيهم من عذاب الله الذي سيقع عليهم ويلازمهم في الآخرة، ولن تكون أموالهم ولا أولادهم بمخلّصيهم منه.
كما أنّهم في الآخرة سيحلفون لله -تعالى- بأنّهم مؤمنين كما حلفوا في الدنيا، وذلك لظنّهم بأنّ هذا يُنجيهم، ولكن هيهات فهؤلاء من جماعة الشيطان الذين خسروا دينهم وأنفسهم وباعوها بثمنٍ بخس.
غلبة الله تعالى وحزبه على الكافرين
قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ أُولَـئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ* كَتَبَ اللَّـهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّـهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ* لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَـئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَـئِكَ حِزْبُ اللَّـهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّـهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
إنّ الذين يعادون الله ورسله سيُغلبون لا محالة، فالله -تعالى- مقدّر أنّ الغلبة لله ولرسله الكرام، وهو صاحب القوّة والعزّ المطلق، وأهل الإيمان لا يوالون ولا يحبّون أهل الكفر مهما كانت صلتهم بهم قريبة، فالإيمان راسخ في قلوبهم يطغى على أيّ علاقة دونه، فهؤلاء هم أهل الفلاح الذين اصطفاهم -تعالى- وارتضاهم وأيّدهم بالنصر و الرحمة وبالقرآن الكريم وبجبريل -عليه السلام- .
تفسير الآية المتعلقة بإحاطة علم الله تعالى
قال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
تُخبر هذه الآيات عن سعة علم الله -تعالى- وإحاطته لكل صغير وكبير، فما اجتمع ثلاثة أو أربعة أو أيّ مجموعة من النّاس وتكلّموا فيما بينهم سرًّا إلّا كان الله -عزّ وجلّ- معهم في علمه ومعيّته -سبحانه-.
تفسير آيات الآداب
احتوت سورة المجادلة على جملة من الآداب المجتمعية، بيانها فيما يأتي.
النهي عن التناجي بالإثم
قال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّـهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّـهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ* إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).
تُشير هذه الآيات إلى الأقوام الذين كانوا يتناجون فيما بينهم من اليهود والمنافقين ويتغامزون بحضور المسلمين، فيظنّ المسلمون أنّ هؤلاء يخفون خبر استشهاد أحد من أهل الإيمان في السرايا فيحزنون، أو يقع في نفوسهم أنّهم يتكلّمون في السرّ لأنّهم يريدون قتلهم والغدر بهم، فاشتكى المسلمون ذلك لرسول الله فنهاهم عن ذلك، ولكنّ الكفّار أصرّوا على النجوى واستمرّوا بهذه الفعل.
عندئذ أرشد الله -تعالى- عباده إلى عدم الالتفات لفعلهم فما يقع في نفوسهم من الحزن والخوف ما هو إلّا من الشيطان وليس من الحقيقة في شيء، كما أرشدهم إلى عدم التناجي -وهو الحديث بالسرّ- إلّا بأمور البرّ والصدق والطاعات وترك المعاصي، وأمرهم بالتوكّل على ربهم فالشيطان ليس له سلطة أو وسيلة عليهم.
أدب المجالسة في الإسلام
قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّـهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).
يؤدّب الله -تعالى- عباده المؤمنين في هذه الآيات بآداب رفيعة قد تغيب عن ذهن البعض لدقّتها، وهذه الآداب هي التفسّح في المجلس؛ أي أن يُعطي الجالس مكانًا لمن يُريد الجلوس إذا ضاق المكان، والنشوز في المجلس هو القيام عند الحاجة لذلك؛ كحصول أمر طارئ يستدعي قيام الجالسين، ولهذه الآداب آثار فاضلة على المجتمع، وهي من سمة أهل العلم والإيمان.
تقديم الصدقة عند مناجاة الرسول
قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّـهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّـهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
أمر الله -تعالى- المؤمنين أن يُقدّموا صدقةً عند إرادتهم سؤال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- عن أمرٍ ما، ولكنّ هذا الأمر نُسخ وأُلغي، وأرشد الله -عزّ وجلّ- عباده للالتزام بالصّلاة، وإخراج الزكاة ، وبطاعته ونبيّه.