تفسير آية (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم)
مناسبة الآية ومعناها الإجمالي
هذه الآية وردت في الثلث الأخير من سورة الزمر بعد سلسلة من الوعيد للكفار وضرب الأمثلة بما حلَّ مِن سخط الله على الأمم السابقة؛ فبعدها جاء التبشير؛ كعادة القرآن بالتوازن بين التبشير والإنذار، فقال -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
وقد جاء التبشير بعد كثرة الوعيد رحمةً بنفوس المخاطبين، حتى لا تيأس النفوس وتنفر وتستوحش، فخاطبهم على لسان نبي الرحمة صارفاً القول إلى خطابه بعد أسلوب الغيبة، ومناسبة الآية تُبرز المعنى الإجمالي لها الذي لخصه ابن مسعود بقوله: إنَّ أكبر آية فرجاً في القرآن: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّه).
وقريب منه ما وصفها به علي بن أبي طالب حين قال بأنه لا توجد آية في القرآن أوسع منها، فقد بيَّنت هذه الآية أنَّ باب السماء مفتوح لكل تائب، ولن يُغلق قبل بدء أهوال يوم القيامة ، لذا فقد "أعلم الله -تعالى- أنَّ مَنْ تاب وآمن غفر الله له كلَّ ذنب".
التفسير التحليلي للآية
يمكن تفسير الآيات تحليلياً ببيان معاني المفردات والتراكيب كما يأتي:
- (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ)
مطلوب منك أيها الرسول الكريم أن تحفز العاصين بمختلف أصنافهم وتثير حماسهم على طرق باب التوبة ، وعليك أن توجه النداء لكل الذين أفرطوا في الجناية على أنفسهم بالإسراف في المعاصي والشرك وسفك الدماء، وفي هذه الآية ألوان حسنة من بلاغة المعاني والبيانِ، منها: إقبالُه على العاصين من عباده، ونداؤه لهم ليُقبلوا طلباً للتوبة، ومنها: إضافة العباد إليه إضافةَ تشريفٍ، ومنها: الالتفاتُ من التكلم إلى الغَيْبةِ.
- (لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)
ذكر اسمه الأعظم -سبحانه وتعالى- تنويهاً بأنه "لا نزاع أنَّ عدم اليأس منِ الرحمة يكون مشروطاً بالتوبة والإيمان"، فلا ينقطع رجاؤكم وتيأسوا وتمتنعوا، وقد عظَّمت الآية الترجية بصرف القول عن ضمير المتكلم، وأيضاً إضافة الرحمة إلى اسم (الله) وهو الاسم الأعظم الجامع لجميع صفات الجلال والإكرام.
- (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)
علل هنا سبب عدم القنوط من رحمة الله على سبيل التأكيد والتكرر للاسم الأعظم له -سبحانه وتعالى-؛ تعظيماً لحال التائبين وعنايةً بهم، فكما أنه -سبحانه وتعالى- متصف بالانتقام فهو أيضاً متصف بالعفو والغفران؛ لذلك فإنه (يَغْفِرُ) إن شاء (الذُّنُوبَ)، ورغم أن لام التعريف تفيد معنى الاستغراق لكل الذنوب إلا أنه أكده فقال: (جَمِيعًا)، ولا يبالي بعِظم الجريمة ولا يغلق باب التوبة، ولا يحول بين العبد والتوبة أي حائل.
- (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)
هذا الإله الذي مِن عادته الدائمة المغفرة والرحمة لن يُعجزه أن يعفو عنكم، والتعبير بصيغة (الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) التي تدل على المبالغة تفيد ذروة الوعد بالرَّحمةِ بعد المغفرةِ، فضلاً عن وعده بالمغفرة في الجملة السابقة، ثم تعليلها في هذه الجملة بأنَّ الله يغفرُ الذُّنوبَ، وتكرار الاسمِ الجليلِ الأعظم (الله جل جلاله) بدلا من التعبير عنه بالضَّميرِ؛ لدلالتهِ على أنَّه هو المستغنِي والمنعمُ على الإطلاق.
سبب نزول الآية
سبب نزول الآية ذكره ابن عباس رضي الله عنهما، حيث قال: (إنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، ثُمَّ أَتَوْا مُحَمَّدًا صَلى الله عَليه وسَلم، فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو لَحَسَنٌ، وَلَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً، فَنَزَلَ: (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا)، وَنَزَلَ: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ).
وسبب النزول يبيَّن أنَّ التشريع الإسلامي سمحٌ كريم، فالإسلام يجبُّ ما قبله، ويرفع المؤاخذة عن معاصي الجاهلية لِمن أسلم، وهذا ما وضحه سبب نزول الآية التي نزلت بسبب تجمع أناس من مشركي مكة، فقالوا: يا محمد، إن الذي تقوله وتدعو إليه حسَن، ولو أنَّ عندك لِما عملنا في جاهليتنا كفارة لأسلمنا.
وحين نزلت الآية اطمأنوا وآمنوا، وآمن مثلهم خلق كثير. فلو أنَّ الإسلام أوجب مؤاخذتهم لما دخلوا في الدين، ولو أنهم أيسوا من رحمة الله -تعالى- وقنطوا من قبولهم ومسامحتهم لبقوا على كفرهم.