تفسير آية (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)
تفسير آية (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)
الحمد لله الذي قدَّر الخير والشر فصبّ لطفه في كلّ أمرٍ اقتضاه لعباده المؤمنين؛ فلا خِيرة إلا في اختياره، ولا توفيق إلا بأمره، فمن توكَّل عليه اهتدى إلى النور وارتضى حتى تسكن روحه الطمأنينة الخالصة، وقد قال الله -تعالى- مواسياً عباده: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).
سبب نزول الآية الكريمة
نزلت هذه الآية الكريمة في سورة التوبة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة عندما همّ المسلمون لقتال الروم وقت فصل الصيف وبزوغ الثمار ونضجها فتغري الناس بالدنيا وتخلدهم في نعيمها، فكان هذا ابتلاءً وامتحانًا لصدق المؤمنين وإخلاصهم لدين الله، وتمييزاً بينهم وبين المنافقين الذين قعدوا وأُخلدوا إلى الأرض.
فتحدثت الآيات بصرامة وعنف، ففضحت المنافقين، وكشفت عن المترددين، وأهانت طُلاَّب الدّعة والراحة الخالدين في الدنيا، الذين آثروا ظلّ القعود في بيوتهم وحقولهم على حرّ الصحراء، ووعثاء السفر، ومتاعب الجلاد،وبينت مُعاناة جيش المسلمين وقد سُمي بجيش العسرة؛ أي الشدة بسبب الكد العظيم الذي لاقوه، وللظروف العصيبة التي اكتنفتهم.
فأنزل الله -تعالى- هذه الآية الكريمة مواساةً للمسلمين وتلطيفاً عليهم وتوبيخاً لمن تخلَّف عن القتال، فهم لا يحبون أن ينصر الله المسلمين على عدوهم، ويفرحون إذا هُزم المسلمون.
القدر خيره وشره
لقد عززت الآية الكريمة الرضا بالقدر خيره وشره، وفيها مواساة ربانية سكبها الله -تعالى- في قلوب المؤمنين وتصفية لقلوبهم الطاهرة ليستقيم اعوجاجها وتُسَلّم لأمر ربها في سرِّ إرادته للخير والشر بحكمته البالغة الخالصة.
ولقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المؤمن: (عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له).
فأرشد الله -عز وجل- المؤمنين لصلاحهم، ووبخ المنافقين وبَكَّتهم في أنَّ القدر مكتوب قبل خلق الخلائق في اللوح المحفوظ، والكل مُيسَّر له دخول الجنة إن عمل صالحاً وأطاع ربه، ومن كذب واستعلى تخطفه كلابيب النار لأنَّه ارتضى بزمجرة الأهواء.
حقيقة القدر
القدر في الحقيقة بخيره وشره ينقسم في حياة الخلق على قسمين بيانهم ما يأتي:
- قدر مُسيَّر؛ وهو الذي لا دخل للإنسان به كالشكل والطول، وطريقة الخلق ويوم الوفاة ويوم والولادة، وفي الأمور التي ليس للإنسان يد في تغييرها.
- قدر مخير
وهو ما خُير به الإنسان، وله يدٌ في تغيره كالدخول في الإسلام؛ لأن للمرء عقلاً يفكر فيه، فمن اتبع طريق الرشد، وعَقِل المراد من الشرع، وفعل واجباته دخل الجنة، ومن عصى وبغى وكذَّب دخل النار؛ فإنَّ الله كتب في كتابه مقادير الخلق في دخول الجنة والنار، والكل مُسيَّر لما خُلق له.
حقيقة المصائب
أرشدت الآية الكريمة على الحديث عما قد يُصيب الإنسان أو ما يحدث له، فإنَّ حدث للإنسان شيء يأتي منه خير، يكون بالنسبة له حسنة؛ وإن أتى منه شر يكون من وجهة نظره سيئة، وإن المصائب التي تصيب الإنسان نوعين بيانهم ما يأتي:
- مصيبة للنفس فيها غريم
كمن يعتدي على أحد ويظلمه فيصبح غريمه، ويرغب في الانتقام منه، ولقد رغَّب الله -عز وجل- الناس بالعفو في هذا النوع فقال: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
- مصيبة ليس فيها غريم
وهي المصائب التي تنهال على المؤمن اختباراً من الله له في مدرسة البلاء؛ فأمر الله -تعالى- فيها بالصبر فقال: (وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ).
فوائد الآية الكريمة
أرشدت الآية الكريمة إلى فوائد عظيمة جليلة منها ما يأتي:
- عدم الاكتراث بالمصيبة
أو إعطائها أكبر من حجمها، فإنَّ المرء لا يستطيع أن يحمل بقلبه هماً يُثقل كاهله، فأرشده الله -عز وجل- إلى الاطمئنان وإنَّ ما كُتب له هو الخير فعليه أن يصبر، لأنَّ الحزن يُذهب قوة المرء ويكسوه بالريبة.
- مواجهة المشاكل وحلها
فالمؤمن القوي هو الذي يرضى بأمر الله، ويتوكل على الله -تعالى- ويأخذ بالأسباب لحلِّ المشكلات والمصائب التي تصيبه، فيتوكل على الله في جلب المصالح ودفع المضار.
- ترسيخ عظمة الله وقدرته ، وأنّه لا حول ولا قوة إلا به، فكل شيء بأمره؛ فهو الخالق القادر على تغير الأقدر إذا أراد.
- والإكثار من ذكر الله عز وجل، والإكثار من الدعاء، حتى تنجلي الأحزان وتنهال السعادة على القلوب، وتتبدل الأحوال.
- الرضا بالقدر فالله متولي الأمور الدينية والدنيوية، فالرضا غيث القلوب الحائرة يهديها لجنة السكينة فتطيب الروح وتنجلي سكرات الحزن فترضى بأمر ربها.