تعريف الحكمة في العصر العباسي
تعريف الحكمة لغة واصطلاحًا
الحكمة، هي مصدر للفعل حَكَمَ، وتعني العلم بحقائق الأشياء، ووردت في القرآن الكريم في قوله تعالى في سورة لقمان: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّـهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّـهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}.
وتعني أيضًا معرفة أفضل الأشياء من خلال أفضل العلوم، ومن الممكن أن تستخدم كمرادف لكلمة فلسفة، أو التصوف، ويقال من أهل الحكمة، أي من أهل الفلسفة والعلم والتبصر في حقائق الأمور وضبط النفس.
أما الحكمة في العصر العباسي تُعد فنًا من فنون الأدب العربي، التي تهدف إلى النصح والإرشاد، والموعظة الحسنة، وتأتي تعبيرًا عن تجربة ذاتية خاضها الحكيم، أو الفيلسوف، وعن طول تأملٍ وتبصُّرٍ بجوانب الحياة وأحوالها، وتقلباتها.
فهنالك الشعر العربي في العصر العباسي المشبع بالحكم المستمدة من واقع الحياة العربية، بالإضافة إلى ما استمده الشعراء العرب من الثقافات الأخرى، والحضارات غير العربية والإسلامية، من خلال الكتب المترجمة، والغنية بالأمثال وأدب الحكماء، فاقتبسوا منها، ونظموا على منوالها.
أسباب ازدهار الحكمة في العصر العباسي
ذكرت المصادر العديد من العوامل التي ساهمت كثيرًا في ازدهار الحكمة في العصر العباسي، لدرجة أن بعض المؤرخين يلقبونه بعصر الحكماء؛ لما فيه من شعراء، وأدباء عرفوا بأن الحكمة شكلت أساس شعرهم، وأدبهم، ومن أهم تلك العوامل:
- ضعف أثر حياة البداوة، والتأثر الكبير في الحضارة الفارسية القديمة، والسير على نهجها
وكان هذا العامل ظاهرًا في العراق، فنشأ عن ذلك تلاشي سلطة العرب؛ وتمتُّع شباب الجيل الجديد بكل ما كان لا يتمتع فيه شباب الجيل العربي في العهد الماضي، فتساوى الغالب والمغلوب في كل شيء، فأدى إلى تلاشي سلطة الدين، بسبب حداثة القوم، ولتأثير ديانتهم القديمة الموروثة عليهم.
- تطور العلوم بشكل كبير وواضح
مما أدى إلى ضرورة انتهاج منهج علمي في التفكير كي يساعد الباحثين عن الحقائق إلى الاهتداء لها بواسطة العقل؛ لذلك فهم بحاجة إلى الحكمة، فتطورت وازدهرت.
- تشعب العلوم الدينية وتطورها
مما أدى إلى ضرورة وجود حكماء، يفصلون في المسائل الدينية، ويوظفون العقل أداةً لحسم المسائل الدينية، والعقائدية.
- انتشار الحكمة الفارسية والهندية، التي تتسم بالتصوف والزهد.
- التوسع الكبير في حركة الترجمة، والنقل عن الثقافات الأخرى
مثل الفارسية، واليونانية، وغيرها من الحضارات، فاطَّلع العرب على مؤلفات أفلاطون وأرسطو، وغيرهم من فلاسفة، وحكماء اليونان الذين كان لهم الأثر البالغ في الحكمة العربية في العصر العباسي.
مجالات استخدام الحكمة في العصر العباسي
استخدم الأدباء الحكمة في أشعارهم، ونثرهم؛ للتعبير عن التجارب الإنسانية، وتعميمها ونشرها بين العوام لتحقيق أعلى قدر من الفائدة، ومن أهم المجالات التي استخدم فيها أدباء العصر العباسي الحكمة:
الشعر
إن شعر الحكمة عند العباسيين أهم الأمور التي تميز بها العصر العباسي في المجال الفكري، والفلسفي، الاتجاه نحو التجديد فقد ظهرت تيارات تنادي بحرية الإنسان في خياراته، والسبب في ذلك هو الانفتاح الكبير على الثقافات اليونانية والفارسية والرومانية.
وأدى هذا الانفتاح إلى التأثير بشكل إيجابي على نظرة الفرد إلى نفسه، كإنسان عاقل له القدرة على إنتاج المعارف، وإنشاء الحضارات، وانعكس هذا الانفتاح على الشعر والفنون، فظهرت الحكمة والفلسفة في أشعار العديد من الشعراء، وكان المنطق المأخوذ عن اليونان ذا أثرٍ بارزٍ في تفكير الشعراء، وعملوا على تضمين النزعات المنطقية، والعقلية في أشعارهم.
الأمثال الشعبية
المثلُ لغةً: هو إطلاق وصف على حالةٍ كانت لها حالات مشابهة، فاشتق الناس منها حكمةً جامعةً، وتمتاز بسهولة حفظها، وانتشارها بين الناس.
ومن أهم الأدباء الذين اهتموا بجمع الأمثال وحفظها وتدوينها في العصر العباسي؛ أبو هلال العسكري، في كتابه المشهور جمهرة الأمثال، ثم تلاه العلامة الميداني فألف كتاب مجمع الأمثال، وغالبًا ما يذكرون سرد الأسطورة أو القصة التي تَمخَّض منها المثل، ثم يتبعونها بالحوادث التي يقال فيها.
أشهر شعراء الحكمة في العصر العباسي
وفيما يأتي أشهر شعراء الحكمة في العصر العباسي:
المتنبي
هنالك خلاف حول نسب المتنبي، فقد قال بعض الباحثين إن نسبه يرجع إلى أبيه المعروف بعبدان السقَّاء الذي كان يستقي في الكوفة، والبعض الآخر يرجح أن نسبه يرجع إلى الجعفي الكندي، نسبة إلى كندة وهي أيضًا تقع في مدينة الكوفة، وعرف عن أهله قوة ذاكرتهم، وكان والده على علاقة بالأصمعي.
وتنقَّل به والده عندما رأى نبوغه، فجاء به إلى بلاد الشام، فخالط الكثير من علماء زمانه؛ كالزجاج، وابن السراج، والأخفش، وابن دريد، وغريهم، وهذا الأمر عزز من بروز جانب النباهة والحكمة في حياته الشخصية، والتي كان لها أثر كبير على أشعار المتنبي المفعمة بالحكم ، لدرجة أنه عندما أراد الفرار من الموت قال له غلامه أتهرب وأنت قائل:
الخَيلُ وَاللَيلُ وَالبَيداءُ تَعرِفُني
- وَالسَيفُ وَالرُمحُ وَالقِرطاسُ وَالقَلَمُ
وهذه الأبيات من قصيدة وا حر قلباه، من خلالها تذكر المتنبي ضرورة العيش في عزة، والترفع عن الفرار، والتحلي بالشجاعة لملاقاة عدوه حتى وإن كلفه ذلك حياته، ولاقى حتفه عندما قرر أن لا يلوذ بالفرار .
المعرّي
وهو أحمد بن عبدالله بن سليمان، المعروف بأبو العلاء المعري، لقب نفسه برهين المُحبَسين بعد عودته من بغداد فقد لزم بيته، وكان كفيفًا، كما أنه عرف باعتزاله لذائذ الحياة، فقد كان من الزُّهاد المترفعين عن لذائذ الجسد.
وهو فيلسوف الشعراء، فقد امتازت أشعاره بالبعد الفلسفي، الذي يعبر عن الحكمة العميقة فيه، ولقب بأمير شعراء العصر العباسي، ومن أهم أشعاره التي عبر فيها عن حكمته، وفلسفته في الحياة، قصيدة أراني في سجوني، ويقول في مطلعها:
أَراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني
- فَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ النَبيثِ
لِفَقدِيَ ناظِري وَلُزومِ بَيتي
- وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيثِ
وفي هذه الأبيات، يعظم أبو العلاء المعري نفسه التي ترفعت عن لذائذ الجسد، وأنه لم يستسلم لما حل به من نوائب، لفقدانه بصره.
أبو تمام
أبو تمام من أشهر الشعراء العباسيين ، ولد تقريبًا سنة 91 للهجرة، أمضى حياته متنقلًا بين بلاد الشام، ومصر والعراق، عُرف شعره بالتألق الأدبي، وشغفه الشديد بالألفاظ الفصيحة، وتجلت النزعة العقلانية في شعر أبي تمام من خلال نظرته إلى الإنسان، ووجوده، ويقول في قصيدة سعدت غربة النوى بسعاد:
شابَ رَأسي وَما رَأَيتُ مَشيبَ الـ
- رَأسِ إِلّا مِن فَضلِ شَيبِ الفُؤادِ
وَكَذاكَ القُلوبُ في كُلِّ بُؤسٍ
- وَنَعيمٍ طَلائِعُ الأَجسادِ
ويصف أبو تمام في هذين البيتين، مدى ضعفه، وهذا حال الإنسان عندما تصيبه النوائب، فالشيب لا يظهر بسبب التقدم في السن والكهولة، وإنما بسبب الهموم التي اعترت قلبه.
ابن الرومي
ولد ابن الرومي كما ذكر ابن خلكان سنة 221 هـ في مدينة بغداد، وكان مقربًا من المنصور، ولم تذكر المصادر اسمه الكامل، ولا نسبه، ومن والدته، عُرف بإتقانه لمختلف أنواع الشعر كالمديح.
كما عرف ابن الرومي بحبه الشديد للحياة، كما أنه يعد من العباقرة بحسب رأي المفكر والأديب عباس محمود العقاد، وينسب بعض المفكرين عبقريته إلى أصوله اليونانية، وله بعض القصائد التي تناول فيها الحكمة.
لكن الرومي كان من أبعد الشعراء عن الحكمة، وفلسفة الحياة مقارنةً بباقي شعراء العصر العباسي؛ وذلك لأنه كان أقرب إلى الفن، من الفلسفة، والحكمة، لكن وردت بعض الأبيات التي أكد فيها على أن الإنسان يجب أن يتحلى بعزة النفس والترفع عن المهانة، وقال في قصيدة أصبحت بين خصاصة، ومذلة:
أصبحتُ بين خصاصةٍ ومذلّة
- والمرءُ بينهما يموتُ هزيلا
فامددْ إليَّ يداً تعوّدَ بطنُها
- بذلَ النّوالِ وظهرُها التقبيلا
أبو فراس الحمداني
وهو الحارث بن سعيد بن حمدان التغلبي الربعي، ولد سنة 320 هـ، وكان صديقًا للصاحب ابن عبّاد الذي قال أن الشعر ابتدأ بملك، وانتهى بأمير، ويقصد أن الشعر ابتدأ بامرئ القيس، وانتهى بأبي فراس الحمداني؛ وذلك لقيمة شعره.
وكان الحمداني من الشعراء البارزين في العصر العباسي، عرف بفروسيته، وعلاقته بسيف الدولة الحمداني، فقد كان ابن عمه، كما عُرف بشعره الغزلي، والشعر الفلسفي، الذي حاكى فيه تجربته الشخصية، مستخلصًا أهم الحكم، وقال في ديوانه، في مطلع قصيدته، أقول وقد ناحت:
أَقولُ وَقَد ناحَت بِقُربي حَمامَةٌ
- أَيا جارَتا هَل تَشعُرينَ بِحالي
مَعاذَ الهَوى ماذُقتِ طارِقَةَ النَوى
- وَلا خَطَرَت مِنكِ الهُمومُ بِبالِ
وفي هذه الأبيات، يصف أبو فراس حالة الحزن التي يعانيها في وحدته عندما كان أسيرًا، فعند النوائب يصعب أن يجد الإنسان من يشعر به، ويبرع أبو فراس في وصف خلجات النفس الإنسانية، وهي في ذروة الأزمات التي تمر بها.