تعبير كتابي عن وصف مدينة سياحية
البتراء مجد دائم
ترتدي الأماكن الأثرية لباس الفخر متزينةً بعظمة الأجداد، فإذا ذُكر اسمها انتشر عبق المجد في الأرجاء، وإذا زارها الناس امتلأت صدورهم بالأنس، وإذا بحثت أقلامنا عنها ضمّ الحبر بين دفتيه دفء أوصافها وجمال تفاصيلها، تلك التفاصيل التي عبرت الزمن.
تلك التفاصيل المقاومة لعوامل الحياة وقسوتها، والصامدة أمامها صمود الصخر في مهب الرياح؛ لتُحدثنا عما شاهدته خلال الأزمنة البشرية المختلفة، ومن ضمن هذه الأماكن، بل وأكثرها شهرةً وعجبًا، تلك المدينة التي وصفها مكتشفها بقوله "إنّها آياتٌ من الفن"، تلك المدينة هي البتراء.
البتراء معالمها تذهب الأبصار
تضم الأردن بين جانبيها هذه المدينة العجيبة والتي تُدعى مدينة البتراء، وتحديدًا في جنوبها في محافظة معان في لواء البتراء ؛ حيث المناخ الصحراوي والطبيعة الجبلية، فنرى بذلك جبال وادي موسى تحتضن المدينة احتضان الأم لأبنائها، فصخور الجبال حانية عاطفة على كل حجرٍ من أحجارها، مخبأة إياها بين أضلاعها المتمثلة بحاجزٍ منيعٍ من الجبال التي يصعب اختراقها، المعروفة باسم السيق.
يعود تاريخ نشأة البتراء إلى عصور ما قبل التاريخ، وتقريبًا في عام 312 ق. م، فقد كانت عاصمة الدولة النبطية آنذاك، تلك الدولة التي اشتهرت بجمال ما تصنعه أيادي شعبها من فخارٍ ومنحوتاتٍ، فنقلوا بذلك إبداع ما وهبهم الله إيّاه إلى مدينة البتراء عبر بنائها بناءً يجمع ما بين الحضارة النبطية والمصرية والآشورية، مما أكسبها تنوعًا وغنى في المظاهر المعمارية.
نرى العديد من الأقواس والأعمدة مختلقة الحجم، إضافةً إلى المباني المتعددة والغنية بشتى أنواع الفنون، ومباني العمارة الجنائزية التي عكست اهتمام الشعب النبطي بالحياة الآخرة، وإيمانهم فيها كلّ الإيمان؛ إذ نلحظ انتشار المقابر ضمن المدينة، ولا سيما في الطريق الرئيس المؤدي لها، وامتلك الشعب البيزنطي من العبقرية ما أوصلهم إلى مثالية التصميم الهندسي في بناء مدينتهم وعاصمتهم.
أدركوا صعوبة المناخ الصحراوي، وقساوة الطبيعة المتلونة بألوان الصحراء والجبل، ليُوجدوا الحل المناسب لهذه المشكلة عبر تصميم مدينتهم وفق نظامٍ هندسي مائي يمد قاطنيها بحاجاتهم المائية، وترصد عينا الزائر لمدينة البتراء التنوع الكثيف في خامات الأبنية والطرقات، والذي يعكس استغلال الشعب النبطي لجميع الإمكانيات المتوافرة في شتى البيئات؛ لتكون البتراء لوحةً فنيةً مصنوعةً من الرخام والأحجار والأشجار والصخور.
تلك الصخور الملتوية ذات اللون الوردي، والتي أكسبت البتراء اسم المدينة الوردية، وتمتّعت المدينة بموقعٍ جغرافي متميز آنذاك؛ إذ توسطت الحضارات المختلفة في المنطقة توسط القلادة في العقد، فما من قافلةٍ تجاريةٍ إلّا ومرت من خلالها، الأمر الذي ساعد على انتشار الثقافة النبطية في الأرجاء كافة، وازدهار تجارتها واقتصادها، وتنوع ثقافاتها.
مرت البتراء بعددٍ من المراحل التاريخية السياسية، ففي العقد السادس من قبل الميلاد تعرضت المدينة للغزو الروماني، مُعلنةً بذلك انتهاء عصر مؤسسها الحقيقي الدولة النبطية، وسرعان ما قام الروم بوضع ألوانهم الخاصة في لوحة البتراء، إذ قاموا ببناء العديد من الأبنية، بالإضافة إلى بنائهم مدرج البتراء.
مع ظهور وشهرة العديد من المدن الأخرى كمدينة تدمر شهدت البتراء هدوءًا تدريجيًا استمر إلى أن انطفأ بريقها برحيل الروم عنها، ومن ثم رحيل أهلها نتيجة ما تعرضت لها من الزلازل، وكان للمماليك بصمتهم على البتراء ففي القرن الرابع عشر بنوا مقام النبي هارون، وبعدها دخلت المدينة بحالةٍ من السبات الشتوي الطويل، الذي التهم ملامحها وأهداها التعب والشقاء.
على الرغم مما شهدته المدينة إلّا أنّ ذلك أعطاها ما هي عليه اليوم، فقد احتضنت ما يُقارب الثلاثة آلاف معلم، بلغ عدد المعالم المشهورة منها ثمانمئة معلم، ولكل معلمٍ منها طابع خاص به، يتنوع ما بين الطابع النبطي والروماني والمملوكي، إضافةً إلى تنوع الأنماط الصادرة عن الاختلاط الحضاري؛ مثل: المصري والآشوري.
برز جمال البتراء في مواضع عديدة، منها: تلك المجموعة الجبلية المتلاحمة والمتراصة بغية حماية المدينة، والتي تُعرف باسم "السيق"؛ إذ يُعدّ السيق الطريق الرئيس المؤدي للمدينة، وهو طريق طبيعي المنشأ، إلّا أنّ الأنباط قد أكملوا بناءه، وهو من الطرق الملتوية إذ يبدو في جماله كالفتاة التي تفتن الناظرين بدقة خصرها والتوائه كلما تحركت يمينًا أو يسارًا.
يتزين جانبا السيق بعددٍ كبير من المنحوتات المعبرة عن الآلهة، الملاصقة للعديد من القنوات المائية، الأمر الذي يعكس نظرة الأنباط المقدسة للمياه، وفور الانتهاء من السيق نرى أمامنا ضريحًا ملكيًا يدهش الأبصار؛ إذ تشابهت تفاصيل نحته مع ما تصنعه الآليات الحديثة، ويتكون هذا المبنى من طابقين قد زُين كلاهما بعددٍ من الأعمدة، التي يتوسطها في الطابق العلوي منحوتةً اتخذت من الجرة شكلًا لها.
الأمر الذي أكسب هذا المبنى اسم "الخزنة"؛ إذ تتحدث الأساطير البدوية عن اعتقاد البدو احتواء هذه الجرة على كنزٍ ثمينٍ، ومن المباني التي تعكس تطور الأنباط وحضارتهم، ذلك المسرح النبطي الذي بُني في القرن الأول الميلادي، بأمرٍ من الملك الحارث الرابع بمناسبة زواجه الثاني، ويُعرف باسم "مسرح البتراء"، وقد تلون بمختلف ألوان البناء، فواجهته الأمامية جعلت من الرخام ثوباً لها.
كما أنّ جدرانه الخارجية تزينت بعددٍ من الأعمدة والكوات، وأمّا تصميمه الداخلي المسرحي فقد أشبه القمر في منتصف الشهر، وأحاطت الصفوف به، متنوعةً ومنقسمةً إلى ثلاثة صفوف، تتسع إلى ما لا يقل عن عشرة آلاف مُشاهد، بينما نُلاحظ انتشار المباني المعبرة عن ثقافة الشعب النبطي الدينية، فقد تنوعت ما بين المقابر المنحوتة كمقابر الملوك، والمقابر الأخرى كقبر القصر.
من الأبنية العاكسة للثقافة الدينية بناء "المذبح"، والذي بُني خصيصًا لتقديم القرابين الحيوانية إلى الآلهة، ويحتوي المذبح في جهته الغربية على معبدين، إحداهما يُستخدم بغية الطواف الديني، والآخر بغية وضع دماء القرابين.
لا بُد من الإشارة إلى تلك الشوارع والطرقات عند ذكر البتراء وأبنيتها، والتي تربط بين أجزاء المدينة، فتنظمها وتزينها عبر ما تمتلكه من أوجه التصميم الهندسي وحُليه المتنوعة كالأعمدة والمسننات؛ إذًا فإنّ عظمة البتراء تكمن حقيقةً في تلك الصورة مختلفة الأجزاء، المتنوعة منشأً وحضارةً وثقافةً، وذلك ما أكسبها التصنيف العالمي ضمن عجائب الدنيا.
البتراء يقصدها القاصي والداني
ختامًا، تُعدّ البتراء اليوم أهمّ محطات السياحة العالمية، ويعود ذلك لأمرين؛ إحداهما ما تحتويه هذه المدينة من الفن، والآخر يعود إلى ما تُقدمه الحكومة الأردنية من الرعاية والاهتمام عبر استثمار المدينة من خلال بناء الفنادق، وتوفير الخدمات السياحية، والتغطية الإعلامية والإعلانية بشكلٍ دوري، وإقامة مهرجان البتراء السنوي، فضلًا عن العديد من الأنشطة والفعاليات.