تعبير عن التراث
المقدمة: تراث الأمة دليل عراقتها
نعني بالتراث عادة الإرث الفكري والحضاري الذي خلّفه أسلاف قومٍ ما من عادات وتقاليد وآداب وعلوم وفنون وغير ذلك، وقد يكون التراث مكتوبًا وقد يكون محفوظًا يُنقل مشافهة من جيل إلى جيل، وهذا التراث يعكس صورة الأمّة خلال عصورها الماضية، فيُعبّر التراث عن أصالة الأمة وتفكيرها وعراقتها وحضارتها، فعندما نقرأ التراث ونقف عليه يُخيّل إلينا أنّنا نرى ونسمع ما كان يجري في ذلك الوقت، فنستمع إلى أحاديث الحكماء ونستشعر عظمة السلف ونحاولُ السّير على خطاهم حتى نَصل إلى ذروة سنام المجد.
العرض: التراث حضارة وتاريخ
لو وقفنا -مثلًا- على كتاب من كتب التراث العربي وقرأنا فيه عن حياة الناس في ذلك الوقت سنلاحظ طريقة التفكير التي كانوا يتمتعون بها، وكيفية معالجتهم للأمور وكيف كانوا يحيون حياتهم، وما الأمور التي كانوا ينشغلون بها، فنقرأ عن علومهم التي كانوا يتقنونها ويعملون بها، وما هي الآداب التي كانوا يجيدونها وما هي الأمم التي كانوا على صِلات بها حتى تأثّروا بعلومها وآدابها، إضافة إلى الوقوف على الشخصيات التراثية الأبرز في ذلك الوقت، وكذلك نقطة مهمة ينبغي معرفتها وهي أنّ التراث ينقسم إلى عدة أقسام مثل: الأدب وعلوم الشريعة والعلوم الكونية وغيرها الكثير.
مثلًا في التراث الأدبي العربي نجد الشعراء الجاهليين والإسلاميين والأمويين والعباسيين ونحوهم، وهناك الكُتّاب والأدباء أمثال: الجاحظ والتوحيدي وابن المقفع وغيرهم، ففي رسائل الجاحظ -مثلًا- نقف على أجواء العصر العباسي وطريقة حياة الناس وثقافتهم ومشكلات الحياة اليومية عندهم والهموم التي كانت تثقل كواهلهم، ونقف كذلك على عراقة الناس وتفكيرهم ومدى اتصالهم بالفرس وأخذهم الفنون عنهم، وكذلك أخذهم لعلوم الإغريق وفلسفاتهم، وأخذهم لعلوم العجم من الطب والكيمياء ونحو ذلك، إضافة إلى علاقتهم بالهند، وأخذهم نظام العد عنهم ودخول الأرقام إلى الثقافة العربية الإسلامية.
إذًا؛ أهمية التراث تأتي من كونه العين الكاشفة عن مزايا الأمّة في عصورٍ غابرة لم نكن نعرف عنها شيئًا لولا أنّ التراث قد أوصل إلينا تلك الصور المكتوبة التي تأخذنا معها بعيدًا؛ حيث نلتقي بعظماء الأمّة الذين رسّخوا تاريخها الزاهي الذي ما تزال آثاره باقية تشهد على عظمة الرجال الذين وصلوا الليل بالنهار حتى يصلوا إلى ذرى العلياء فيخطّوا أسماءهم على جبين الأيام فلا تُمحى أبدًا، بل تبقى شاهدًا على كل حرف كتبوه أو كل حرف قد تعلّموه وعلّموه، وعلى كلّ قطعة من الحجر خطّوا عليها أعظم إنجازاتهم الحضارية والفكرية.
قد نقف على كتب التراث فنلاحظ أنّها تشفّ عن حضارات راسخة قد خطّت اسمها في كتاب الأيام، ففي كتب التاريخ القديمة نرى تاريخ البابليين وحضارتهم والسومريين والأكاديين والفينيقيين والآراميين، وغيرهم من أهل الحضارات القديمة التي نمت ونشأت في البلاد العربية، يمنح التراث البلدان الحالية رونقًا خاصًّا يجعلها وجهة السيّاح من جميع أصقاع الأرض، ولعلّ بلاد المشرق هي مهد الحضارات وقبلة السياحة خلال العصر الحديث من جميع أنحاء العالم، لا سيّما أوروبا من خلال باحثيها ومؤرخيها.
إنّ الناظر إلى تدمر والبتراء ومملكة ماري والأهرامات وبصرى الشام ونحوها يرى فيها شاهدًا على إبداع القدماء وقوتهم وعبقريتهم الحضارية، ما يجعلنا نحمل على عاتقنا ضرورة الحفاظ على هذه الآثار وحمايتها من خلال السير على دربهم في الحضارة والإبداع، والتفوق عليهم كوننا نمتلك ذاكرة مجتمعيّة قد خُزّنت فيها كلّ خبراتهم الماضية، ما يجعل الاستفادة منها وتوظيفها في حياتنا اليومية هو أمر سهل المنال يمكننا من خلاله التفوق على أجدادنا حتى نكون الجيل الذي احتفظ بالتراث ودافع عنه واستفاد منه وورّثه للأجيال القادمة.
لقد وصلت حضارتنا السابقة إلى كل أصقاع الأرض، كانت كتب ابن سينا وأبي بكر وجابر بن حيان والحسن بن الهيثم وغيرهم من أجدادنا العباقرة تُدرّس في جامعات أوروبا زمنًا طويلًا، وقد استفادوا منها لبناء جيل ضخم من العباقرة والمبدعين، فهؤلاء العظماء كانوا سفراءنا في حياتهم وبعد الممات ليعطوا صورة مشرقة عن حضارتنا القديمة، فتاريخنا وحضارتنا هي شاهد على عظمتنا التي كنّا عليها والتي سنعود إليها ذات يوم إن شاء الله بهمّتنا وهمّة إخوتنا، فيحقّ لنا أن نفخر وأن نرفع رأسنا عاليًا بتاريخنا وحضارتنا العريقة التي قد خطّها أسلافنا بمداد حبرهم وبدمائهم وبأيّام عمرهم التي قد أفنوها للوصول إلى هذه الرتبة العالية من التقدم والازدهار.
إنّ التراث هو الحضارة التي تعيش في ذاكرة الأحفاد، هو التاريخ الذي يعكسه في الآثار الباقية منه، في سلوك الأبناء والجيل الجديد الذي يعود أصله إلى أولئك الذين قد بنوا البلاد وشيّدوا الصروح الحضارية التي كانت منارة تشعّ على العالم معرفة وأدبًا وفنًّا، التراث يعني أن أتلمّس أرواح القدماء بما تركوه لي من علوم وفنون وصروح شاهدة على تقدّمهم في كل مجال من مجالات الحياة، إنّ التراث أشبه بالعودة في آلة الزمن إلى الوراء، تعود فتلتقي العظماء كما في برامج الأطفال، ولكنّ اللقيا هنا حقيقية لا وهمية كما هي هناك.
إنّ الحفاظ على التراث واجب حضاري ، فالأمّة التي لا تحافظ على تراثها هي أمّة لا تمتلك حضارة تفخر بها وقد يدعو بعضهم لهجر التراث وعدم الاعتزاز به بحجة تعظيم الأموات والعيش على سمعتهم، ولكنّه في الحقيقة شكر لأولئك الذين قد ماتوا وسبقونا إلى ديار الحق، هو في الحقيقة محاولة للإضاءة على إنجازات السابقين ومحاولة الاستفادة منها للوقت الحاضر على نحو يسمح بذلك دون أن يكون تقليدًا للماضي.
لذلك؛ كان لا بدّ من الحفاظ على التراث وتطويره ليبقى شاهدًا لنا على حضارتنا السابقة، كما أنّ كلّ أمّة من الأمم تفتخر بتراثها وعظمائها الذين قد رسّخوا أسماءهم في ذاكرة كل الأجيال، فنحافظ على التراث ليس من الناحية المادية فقط، ولكن نحافظ عليه من خلال تقديم صورة مميزة عن أنفسنا أمام شعوب الأمم الأخرى لنثبت لهم أنّ اعتناءنا بالتراث جاء من أجل الاستفادة ممّا قد مرّ به أسلافنا قبل أن يصلوا إلى الذروة، فنختصر بذلك دربًا طويلًا من التجارب التي لا داعي لها والتي صرنا نعلم نتيجتها مسبقًا.
الخاتمة: نحفظ التراث ونعتز به
إنّ التراث هو بمثابة مرآة حضارة كاملة مرّت على الإنسان القديم فتركت لمن بعده شواهد تاريخية تتحدث عنه، ليس التراث أحجارًا شاخصة قد تعاقبت عليها السنين، إنّما هو بمثابة أرواح مضى عليها الزمان، فخطت كل روح ما يناسبها على هذه الأرض ومضت، فكان التاريخ الذي يستقي منه الإنسان الفطن حاضره، لقد استطاع التراث أن يكون اليد الحانية التي تربت على أبناء الحاضر وتساعدهم على تكوين المستقبل بكل ثقة دون أن يكون هناك فجوة ما بين الأزمنة والتاريخ.