تحليل قصيدة ابن خفاجة في وصف الجبل
تحليل أبيات قصيدة ابن خفاجة في وصف الجبل
إن الفن الأدبي هو نتاج ضغط الرغبات المكبوتة التي تجد الفن منفذاً لها، وهذا ما لجأ إليه ابن خفاجة في وصفه للجبل؛ ليُعبر من خلاله عن صراعه النفسي نتيجة قلقه المزمن من الموت، فقصيدته يمكن تقسيمها إلى ثلاثة محاور رئيسية:
القسم الأول
- بَعَيشِكَ هَل تَدري أَهوجُ الجَنائِبِ
:::تَخُبُّ بِرَحلي أَم ظُهورُ النَجائِبِ
استهل ابن خفاجة قصيدته بالقسم الاستفهامي الذي يوجهه للعامة، محاولاً بذلك البحث عن سبب مقنع للحياة، ولماذا نعيش ما دمنا سنموت؟! فهو ينهض بخطاب حائر يوجه إلى ذاته الحائرة القلقة من النهاية المجهولة التي سيؤول إليها.
القسم الثاني
- فَما لُحتُ في أولى المَشارِقِ
:::تَأَمَّلَ عَن نَجمٍ تَوَقَّدَ ثاقِبِ
في هذه الأبيات يبدو الشاعر بأنه مكتفياً بذاته، كثيراً بوحدته، كأنه مجموعة أشخاص في شخص، فجاره السيف، وبيته ظهر الركوبة وذلك كناية عن كثرة الترحال، وأنيسه الأماني المنتظرة في تحقيق المطالب، إلا أن ارتحاله الدائم دون اتجاه محدد؛ ما هو إلا تسلية لهمه، ووحدته التي يعاني منها التي برزت في (وحيداً تهاداني الفيافي)، فعيشه مضطرب مأزوم بين عصف الريح أي (هوج الجنائب)، والتنقل بين الأمكنة أي (ظهور النجائب).
القسم الثالث
- وَأَرعَنَ طَمّاحِ الذُؤابَةِ
:::فَإِنّا مِن مُقيمٍ وَذاهِبِ
في بحث الشاعر عن أنيس يسليه في وحدته يستقر على صورة الجبل، فيسبغَ عليه صفات بشرية، مسقطاً بذلك نفسه بطبائعها البشرية عليه، فجعله ناطقاً بلسانه، ليقوم الجبل نيابةً عنه بالخلود، فهو من يمتلك صفة تقيه شر الموت، مما دفع الشاعر إلى الولوج إلى ذات الجبل علَّه يمتلك شيئاً من صفاته ولو لوقت قصير، فاختيار ابن خفاجة للجبل اختيار يناسب توجهه النفسي المتأزم بالقلق، فهو يبحث عمّن يُكمل ويعوض له نقصاً أحسَّه عميقاً في ذاته، ملخصاً بذلك واقع الحياة (فَإِنّا مِن مُقيمٍ وَذاهِبِ).
كما أن مناجاة ابن خفاجة للجبل، ضربٌ من التحسر الذي بلغ مرحلة رثاء الذات ، عبر إسقاط مواجعه على ملامح الجبل وتشخيصه إنسيّاً إيحائياً ذا قيم جمالية وفنية وفكرية واضحة، مشكلاً بذلك (الإطار) وهو الجبل، و(المحتوى) وهو قلق الموت.
الصور الفنية في قصيدة الجبل
تحتوي قصيدة الجبل على جُملة من الصور الفنية التي بَرَعَ الشاعر في توظيفها بأبياته؛ لتعكس حالته النفسية القلقة من رحلة الحياة المَحتومة بالموت في نهايتها، وتتلخص فيما يلي:
- وصف النفس الحائرة المضطربة بالرياح العاصفة (هوج الجنائب)، والتنقل بين الأمكنة بتخبط دون اتجاه (ظهور الجنائب).
- إبراز المعاناة من الوحدة (وحيداً تهاداني الفيافي) والترحال بغير رفيق، أو صاحب في ظلام الليل (في قناع الغياهبِ).
- البحث عن رفيق في رحلة الحياة، وحصره في السيف والدار والأنيس باستخدام أسلوب الحصر (لا جار إلّا من حسام مصمم) و(لا دار إلّا في قتود الركائب) و(لا أُنسَ إلّا أن أضاحك ساعة ثغور الأماني)، لكنْ كل ذلك لا يخفف من تشاؤم الشاعر وحزنه الواضح في (أجتلي وجوه المنايا).
- الكناية عن كثرة الترحال (وَلا جارَ إِلّا مِن حُسامٍ مُصَمَّمٍ * وَلا دارَ إِلّا في قُتودِ الرَكائِبِ).
- إضفاء الصفات البشرية على (الجبل) وأبرزها النطق، ليسقط الشاعر ذاته على الجبل الذي رأى فيه الأنيس الجديد القادر على البقاء، فهو الشامخ الصامد على مر العصور، ليقوم الجبل بالخلود نيابةً عنه، فالجبل هو من يمتلك صفة تقية شر الموت.
- التشخيص وبث الحياة في الأشياء المفتقرة للحياة (وجوه المنايا، وحدثني ليل السرى، عيون الكواكب...).
- الخيال الواسع واستخدام أسلوب الحوار (أصغت إليه وهو أخرس صامت، فحدثني ليل السرى بالعجائب).
- التنوع في استخدام الصور البلاغية (التشبيه، الكناية، الاستعارة)، مثل: (يطاول أعنان السماء بغارب) كناية عن طول الجبل وارتفاعه.
- استخدام ألفاظ حسية، كالصوت (نوح، صرخة، ندب)، وكذلك بصرية (يطاول، يسد).
الأفكار الرئيسة في قصيدة الجبل
برزت مجموعة من الأفكار الرئيسية لقصيدة الجبل، وتتلخص فيما يلي:
- القلق الدائم وعدم الطمأنينة والتفكير المستمر بحتمية الموت.
- المعاناة من الوحدة والبحث عن الأنيس للهروب من واقع الحياة.
- الصراع النفسي المتأزم الناتج عن ضعف الإيمان بالموت.
- بث الحياة فيما هو ليس حي؛ لإسقاط الحالة النفسية المضطربة عليه، والتخفيف من التوتر الداخلي.
- النظرة التشاؤمية الناتجة عن تجربة نفسية يعانيها الشاعر في حياته.
- الهروب من الحقيقة الحتمية وهي الموت.
- العاطفة الصادقة والألفاظ المناسبة.