تحليل رواية مدام بوفاري
من الناحية موضوعية
تدور أحداث رواية مدام بوفاري للكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير حول شخصية "إيما" الفتاة القروية التي تلقت تعليمًا دينيًا في الدّير ومقابلتها لشارل بوفاري الذي كان طبيبًا يعايد والدها عندما كُسر قدمه، فيعجب شارل بها بعد أن كان متزوجًا من امرأة ثرية من اختيار أمّه وماتت، فيتقدم بالزواج لإيما التي كانت تشعر بالملل في حياتها وتحتاج إلى التغيير فتوافق مباشرة على الزواج لتنتقل إلى المجتمع المدني الذي يُحاول شارل دمجها فيه، إلّا أنّها تعتبره مجتمعًا جامدًا لا يُلبّي رغباتها الرومانسية والحالمة وهي الفتاة التي تهوى الفنون وقراءة الروايات التي تحملها إلى العالم الرومانسيّة الكلاسيكيّة، فخاب أملها في طبيعة الحياة الجديدة.
تتعرّف إيما على ليون ويُصبح صديقها الذي يساعدها بالوقوف إلى جانبها في أزماتها النفسية، فتقع في غرامه وتعيش معه حياة سرّية تخفيها عن زوجها شارل فتختلق عذرًا لمغادرة المدينة لتأخذ دروسًا في البيانو بينما هي تقابل ليون خارج البلدة، تنجب إيما طفلة من شارل لكنّها سرعان ما تشعر بخيبة الأمومة والالتزام وتُحاول الهروب من هذا المجتمع البرجوازي الذي وضعها فيه شارل ومن رتابة حياتها وجمودها، فتبدأ بالصرف الجنونيّ الذي يوصلها مع عائلتها حدّ الإفلاس وتراكم الدّيون التي لم يساعدها أحد من الأصدقاء في تسديدها حين لجأت إليهم، فتُقرّر الانتحار لأجل الخلاص فتقوم بتسميم نفسها باستخدام الزرنيخ فتموت، ليأخذ شارل طفلته ويغادران المدينة.
من ناحية الأسلوب
اعتُبرت مدام بوفاري تحفة الروايات الواقعية، والعمل الذي أسّس للحركة الواقعية في الأدب الأوروبي، ولقد قضى فلوبير خمسة أعوامٍ في إنتاج هذا العمل، بسبب تركيزه على تألق الأسلوب فيها، فاتّبع الكاتب أسلوب المفارقة الذي يتضح في الرواية بين الحياة البرجوازية وحياة القرية، والشخصية العلمية الجامدة المتمثلة في شارل والشخصية الرومانسية الحالمة التي تعبر عنها إيما، وكثُر أسلوب الهجاء الاجتماعي الذي ظهر عن طريق الشخصية الرئيسة.
لا يحاول فلوبير في روايته إعطاء القارئ صورة كاملة لشخصياته، بل يُقدّم عبر الفصول ملامح صغيرة للشخصية تكتمل مع القارئ في النهاية، وقد اعتنى الكاتب بالتفاصيل الدقيقة، فكان حريصًا على أن توضع كلّ كلمة في مكانها الذي يُحقّق معناها الصحيح، مُستخدمًا الزمن للتلاعب بالمشاعر، فعندما تشعر إيما بالملل يكثر الوصف ليشعر القارئ معها بالملل.
من الناحية الفنيّة
لم تبدأ رواية مدام بوفاري بالتركيز عليها، بل بدأت تظهر بطلة الرواية في الفصول اللاحقة، وهذا ما يُثير لدى القارئ الفضول لمعرفة من الشخصية الرئيسة في الرواية، فلم يخبرنا الراوي عنها إلاّ كشخصية ثانوية في البداية ومن خلال مونولوج شارل، وقد قامت الرواية من الناحية الفنية على الاهتمام الشديد بالتفاصيل وعمق الدراسة النفسية للشخصيات.
اعتمد الكاتب الوصف التعبيري بشكل خاص في الرواية، ولم يتردد عن وصف نفس المكان عدة مرات، ولكن في ظروف مختلفة ونظرة مغايرة من الشخصيات، إذ يعتبر هذا الوصف دعمًا قويًا للتحليل النفسي، من خلال بناء تطابق وثيق مع مشاعر الشخصية والمساحة التي أمامها، على سبيل المثال "نوم الأشياء"، "التمثال التالف" كلها أمور تُعبّر عن خيبة الأمل، والملل، والإحباط، فاتبع الكاتب الترابط بين تدهور العالم، والتدهور النفسيّ.
انتشرت في الرواية عبارات وأوصاف الرومانسية الساخرة؛ إذ إن الكاتب اعتبر أنّ هذا من الناحية الفنية يعبّر عن الجانب الحقيقي في الحياة، ولقد تمّ بناء الرواية على الجمع بين هذه الرومانسية السّاخرة، والسّرد الواقعي الحرفيّ.
الحوار والسرد في رواية مدام بوفاري
لم يُكثر الكاتب من أسلوب الحوار المباشر في روايته؛ إذ اعتقد أنّه ثرثرة لا يسمعها أحد، وفضّل الحوارات الداخلية التي تُرجع الشخصية إلى عزلتها، والتي تعبر عن أنّ لغة التواصل قد تكون غير كافية أحيانًا للتعبير عن الأفكار، وفي المقابل تعددت الأصوات السردية داخل الرواية، إذ بدأ سرد الفصل الأول من الرواية بضمير الجماعة وبصيغة المتكلم ثم تلاشى هذا الصوت وظهر صوت آخر، ليقتصر بعدها على ملاحظات شارل، وتمّ استخدام ضمير الغائب في بعض المواطن التي يتحدث بها الرّاوي وهو أسلوب الكلام الحر غير المباشر، إذ يتم التعبير عن الأفكار والمشاعر دون إسنادها إلى شخص ما.
الآراء النقدية حول رواية مدام بوفاري
عندما صدرت رواية مدام بوفاري، أحدثت ضجة غير مسبوقة في فرنسا؛ وذلك يعود للجرأة المستخدمة فيه، وكشف الذات الذي سعى إليه فلوبير عبر شخصياته، لتصبح بعدها الرواية الواقعية الأكثر شهرة في العالم، وقد أثرت هذه الرواية في الرؤية الأدبية اللاحقة لفن الرواية، وبدأ النقاد بتفحصها من حيث الفكرة، والعمق، والأسلوب، واللغة، فخرجوا بمجموعة من الانتقادات حولها منها ما يأتي:
- تعدد الأصوات السردية في الرواية أوقع القارئ في اللّبس أحيانًا، فلم يعرف لمن ينسب الحوارات، والتعليقات، والأحكام.
- اعتُبرت رواية مدام بوفاري إباحية ومسيئة للأخلاق العامّة في فرنسا فور صدورها، وقد تمت محاكمة فوليير بسببها إلى أن تمت تبرئته لاحقًا.
- اعتُبرت رواية مدام بوفاري رواية نقدية للقيم السطحية والدنيوية للطبقة البرجوازية، إذ تفضح الرواية الاحتقار الشديد الذي يحمله فلوبير لسلوكيات هذه الطبقة الاجتماعية بوصفها بالحيوان البليد، والمبتذل المريض.
- قُدمّت هذه الرواية ببراعة تامّة حول الوجود البشري، والسبب الأول لكونها تحمل كلّ هذا التأثير أنّها رواية حادة ومثيرة للسخرية.
تُعدّ رواية مدام بوفاري من روائع الأدب الواقعي لما تحمله من أفكار اجتماعية وتحليل نفسي للإنسان الذي يضجر من المظاهر المدنية، والبرجوازية الرتيبة والجامدة، والتعب الوجودي الذي يتأزم به إنسان هذا القرن، تدور أحداث الرواية فيما يقارب 310 صفحات، مما يعني أنّ القارئ المتفرغ من الممكن أن ينهيها خلال يومين أو ثلاث، ولا ينصح بقراءتها لم هم دون الثامنة عشر بسبب المشاهد الجنسية التي تكثر في الرواية، والتي استخدمها فوليير لخدمة المعنى الكامل للرواية.