تحليل رواية كائن لا تحتمل خفته
التحليل الموضوعي لرواية كائن لا تحتمل خفته
تدور أحداث هذه الرواية عام 1986م خلال الغزو السوفييتي لبراغ، المدينة التي تعيش فيها الشخصيات، حول توماس المتزوج من تريزا التي يعتبرها رمز الثقل والمسؤولية ويخونها جسديًّا مع سابينا التي تمثّل رمز التحرر والخفة، وتأتي هذه الخيانة مُبرّرة بالحب الكبير الذي يحمله لزوجته، ففي اتباعه رغباته الجنسية والقيام بالخيانة المُجردة من العواطف تكون روحه غير ملزمة بالوفاء لسابينا، على عكس تريزا المُثقلة بالحب والوفاء لتوماس، فهي متشبثة به وتريد احتكاره لها وحدها، ومن هنا ينطلق مفهوم الخفة المقصود به التحرر، والثقل المرتبط بالالتزام والمسؤولية.
عندما يشتد وطيس الغزو يغادرون أرض الوطن إلى سويسرا؛ حيث تُقرّر تريزا العودة وترك الخيار لتوماس الذي ما إن تركته حتى شعر بخفة عظيمة وحرية، إلّا أنه سرعان ما تبعها وتقبل الثقل والمسؤولية الوطنية والسياسية التي حملها لنفسه تاركًا تريزا التي قد عبرت إلى الولايات المتحدة غير مبالية بفرانز عشيقها الجادّ الذي ترك زوجته لأجلها، تُعدّ قصة حب ورواية سياسية؛ فقد تحدّث كونديرا عن مطالب الحزب الشيوعي بالتوافق السياسي مع السوفييت من خلال شخصيته توماس الذي طُلب منه حذف مقال سياسي نشره في الصحف.
واعتبر أنّ البيئة التي تسمح للفساد بالنّمو تجعله يكبر بسرعة، ووضّح كيف أنّ تكنيكيات المقاومة تخدم المحتَّل أحيانًا عن طريق شخصية تيريزا التي كانت تصوّر دبابات السوفييت، فكانوا يتعرفون من خلال هذه الصور على وجوه المقاومين، دارت الرواية في سبعة أقسام؛ ثنائية الخفة والثقل في طرح فلسفيّ، والروح والجسد كما هو واضح في علاقة توماس الجسدية بسابينا والروحية بتيريزا، والخفة والثقل في تجربة الحياة عند توماس بمسؤولياتها، والروح والجسد المستخدمان في التعبير عن الالتزام، والمسيرة الكبرى في الاحتجاج على الغزو، وابتسامة كارنينا الكلبة التي تحتضر.
التحليل الأسلوبي لرواية كائن لا تحتمل خفته
قدّم ميلان كونديرا أسلوب الثنائيات في تعبيره عن الخفة والثّقل، مازجًا فيه الخيال بالفلسفة، متنقلًا بالنّص بين الشخصيات المتعددة واضعًا الإعدادات الزمنية في الحسبان؛ إذ إنّه تنقل في الزمن دون أن يضيعه، معطيًا القارئ شعورًا بالاستمرارية في جميع أنحاء الرواية.
اتّبع كونديرا أسلوبًا جذابًا افتتح به الرواية من خلال الرّاوي الذي يغرق في تأملاته الفلسفية متمعنًا في أفكار الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، والفيلسوف اليوناني الكلاسيكيّ بارمينيديس، من خلال صوت الرّاوي الذي يبقى طيلة القصة يشارك فيها بآرائه، ويطرح الأفكار والتحليلات دون أن يكون جزءًا منها.
هيمنت الأفكار في الرواية على الحبكة وعلم النفس، منتهكًا الكاتب للتسلسل الزمنيّ للسّرد مُصرًا على لفت انتباه القارئ إلى العملية التركيبية نفسها، والصّراع المستمر داخل الحياة، من خلال اللغة المستخدمة، مُقدمًا قصة الحب مع تعليق سياسيّ ممزوجان بتأملات وجودية وجماليات الأسلوب.
الاستعارة والصور الفنية لرواية كائن لا تحتمل خفته
تكثر الاستعارات والتشبيهات والصور الفنية في فن الرواية بشكل عام، وقد أبدع كونديرا في هذه الاستخدامات الفنية في روايته لغرض تحريك المخيلة الجمالية لدى القارئ من جهة، ولتفعيل الرموز في حياة الشخصيات السياسية والنفسية كاستخدامه مثلًا استعارة "ابن الإله، والملاك الساقط" للتعبير عن ابن ستالين الذي كان بجبروته وسطوته بمكانه الإله عند السوفييت، فوقع ابنه في الأسر وتلقى الإهانة إلى أن سقط ومات.
كما استخدم الكاتب الاستعارة الأسطورية متمثلةً في قصة موسى الذي أخرجته ابنة فرعون من السّلة في النهر، للتعبير عن انتشال الشخصية الرئيسية توماس لتريزا التي يراها طفلة مهملة بحاجة إلى العون والاقتراب الملتصق به، واتّضح خياله الخصب في الصور الفنية في روايته؛ إذ شبّه مشهد حبيبته التي تلبس قبعة رجالية والتي رفعها عن رأسها بمن "يمحو شاربين رسمهما طفل عفريت على صورة مريم العذراء".
شبّه كونديرا أيضًا رجل الوزارة في الرواية الذي كان من المفترض أن يأخذ الورقة، لكنّه أبعد ذراعيه بحركة تنم عن دهشة مصطنعة بمثل "إشارة البابا وهو يبارك الجموع من أعلى شرفته" وتمتلئ الرواية بالعديد من الصور الفنية التي لا تدل إلا على قدرة الكاتب على التشبيه الدقيق والخيال عالي الخصوبة، وقد عبّر كونديرا عن أنّ الاستعارة شيء خطير لا يمكن المزاح فيه، مبررًا ذلك لإحدى شخصياته بأنّ "الحب قد يولد من استعارة واحدة".
الحوار والسرد في رواية كائن لا تحتمل خفته
يتّبع ميلان كونديرا في سرده للأحداث أسلوب الراوي المتطفل الذي يقاطع القرّاء ويلفت الانتباه إليه، معتمدًا على البُعد الفلسفي في حوارات الشخصيات بشكلٍ ثنائي متداخل، وفرديًا محايدًا ومتعاليًا، كاشفًا ومليئًا بالغموض.
تدور حوارات الشخصيات الأربعة في الرّواية في سياقات عوامل الجذب المختلفة، وقيود الخفة والثقل، والالتزام والرّفض للمسار السياسيّ داخل الدولة والمعارضة لأشكال الفن الشيوعي الهابط، والتساؤلات حول الموت، والأعمال المُجدية في المقاومة والطرق الأمثل لها، من خلال سرد لا يعبأ بالتسلسل الزمنيّ يركز على الأفكار الفلسفية، والوطنية، والسياسية، واللغة المليئة بالجماليات والاستعارات.
آراء النقاد حول رواية كائن لا تحتمل خفته
قد تتعرض جميع الإصدارات الأدبية للانتقادات، وهذا يدلّ على شهرتها وتأثيرها، ورواية كائن لا تحتمل خفته هي أبرز وأشهر روايات ميلان كونديرا؛ لذلك فقد كانت موضوعًا للنقاش والجدل والنقد ومما جاء في انتقادها:
- بمنظور ميلان كونديرا فإنّ مهمة الراوي هو طرح أسئلة فلسفية عن كل شيء لا إعطاء الحقائق الجاهزة، وهذا ما أخذه عليه النقاد، واعتبروا هذه التقنية تمثل كراهيته للنظام الشمولي الذي أخرج روايته في ظله.
- الإفراط في المشاهد الجنسية داخل الرواية وإباحية الشخصيات، وهذا التجسيد الصريح والفجّ للغريزة الجنسية هدفه لفت الانتباه، وجذب الجمهور، وجني الأرباح، ولا يخدم الأحداث في الرواية بصورة كبيرة، ولا يضفي الكثير من الأفكار عليها.
- شخصية الرّاوي في هذه الرواية كثيرة التطفل إلى الحد الذي قد يشتت القارئ معه، ويُقلّل من عاطفته تجاه التجربة المقروءة، فكان يقاطع القارئ في العديد من المواضع ليعبّر عن أفكاره.
تُعدّ رواية كائن لا تحتمل خفته رواية رومانسيّة سياسيّة تنطوي على أبعادٍ فلسفية حول الوجود الإنساني، بما يحمله من أعباء والتزامات، وما يقع على عاتقه من مسؤوليات اجتماعية، ووطنية، وقد أبدع ميلان كونديرا في هذه الرواية، إذ إنه أضاف لهذا المعنى المشوّق جماليات أسلوبية قائمة على الوصف الدقيق، والانقطاعات الزمنية التي لا تفقد اتصالها أبدًا، إلى جانب أسلوبه المثير والساخر.