العصر الأموي وشعر النقائض
عوامل ظهور شعر النقائض في العصر الأموي
ساهمت عدة عوامل في تشكيل نمط الحياة وأسلوبها الأدبي والثقافي في العصر الأموي لعلّ أبرزها ما يأتي:
- الامتزاج بالأمم الأخرى
فبعد امتداد الفتوحات ووصولها لمختلف الأمم كالفرس والروم والأقباط والأمازيغ بالإضافة للعرب كل هذه العناصر شكلت طبيعة الحياة في العصر الأموي بعد دخولها في الإسلام.
- العامل الإسلامي
حيث شكّل الدين الإسلامي القالب الذي على الأشعار والأدب أنّ يُصب فيه.
- السياسة
فقد تعدّدت المشارب السياسية حيث كانت أبرز التيّارات السياسية هم الأمويين والزبيرين والشيعة، وكان لكلّ تيّار شاعرٌ مُتكلمٌ باسمه.
- الحضارة
حيث تسارعت خطى العمران في العصر الأموي وظهرت مُختلف أشكال الترف والحضارة.
- الثقافة
فقد دخلت الثقافة الفارسيّة والهنديّة وغيرها في الثقافة العربيّة.
- الاقتصاد
فقد تطوّرت الصناعات ودخلت الحرف المُختلفة وكان العرب يأنفون من مُزاولة هذه المهن.
تعريف شعر النقائض
شعر النقائض هو أن يكتب شاعرٌ قصيدةً على مِنوال قصيدةٍ أخرى في الوزن والقافية والرَويّ والموضوع يردُّ على القصيدة الأولى ويَنقُضها ومن هُنا جاءت التسمية بشعر النقائض.
كأن يكتب شاعرٌ قصيدةً على وزن بحر الوافر ورويها الباء في موضوع الهِجاء فيأتي شاعرٌ آخر يكتب على وزن الوافر والرويُّ الباءُ والموضوعُ الهجاءُ، ولكن ينقض ما جاء في القصيدة الأولى.
تاريخ نشأة النقائض
تاريخ النقائض قديم حيث ظهرت بواكيره على هيئة المُفاخرات والمُنافرات وكانت نثراً ثم تطورت لِتطال الشعر فظهوره الأوّل في العصر الجاهلي ولكن لمع نجمه في العصر الأموي.
ذلك مع ثالوث الهجاء هَمَّام بن غالب التَميميّ من بني مُجاشع المعروف بالفرَزدق، وجرير بن عَطيّة التَميميّ من بني كُليب، و الأَخطَل أبو مالك التغلبيّ وشجّعت الكثير من الأسباب لظهور شعر النقائض في العصر الأُموي أرجعها الدكتور شوقي ضيف إلى اجتماعيّة وسياسيّة.
أساليب المناقضة في العصر الأموي
للمناقضة أساليب متعددة هي كالآتي:
- القَلْب
وهو أن يقلب الشاعر المعنى على الشاعر الأول فإنْ هجاه بشيء نسبه إليه.
- المُقابلة
وهي أن ينسب المُعارِض لمن يُعارضه من المثالب ما نسبه إليه.
- التوجيه
وهي أن يوجّه كلّ شاعر حادثة ما أو قولاً كما يراه.
- التكذيب
وهو أن يكذّب المُعارِض ما قاله الشاعر الأول.
- الوعيد
أن يتوعّد المُعارِض لمن يُعارضه مهدداً له.
- الشماتة
أن يَشمَتَ المُعارِض بمن يُعارضه لحادثةٍ ما، وقد يحدث أن يُسلَّم المُعارِض لمن يعارضه في معنىً ما طوعًا أو كرهًا.
موضوعات النقائض
تتعدد موضوعات النقائض لتَشمَل جميع موضوعات الشعر كالنَسيب والرثاء وغيرها، ولكن يبقى النصيب الأكبر للهجاء والفخر في شعر النقائض.
نموذج من شعر النقائض في العصر الأموي مع التحليل
يقول الفرزدق :
إِنَّ الَّذي سَمَكَ السَماءَ بَنى لَنا
بَيتاً دَعائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطوَلُ
بَيتاً بَناهُ لَنا المَليكُ وَما بَنى
حَكَمُ السَماءُ فَإِنَّهُ لا يُنقَلُ
بَيتاً زُرارَةُ مُحتَبٍ بِفِنائِهِ
وَمُجاشِعٌ وَأَبو الفَوارِسِ نَهشَلُ
يَلِجونَ بَيتَ مُجاشِعٍ وَإِذا اِحتَبوا
بَرَزوا كَأَنَّهُمُ الجِبالُ المُثَّلُ
لا يَحتَبي بِفِناءِ بَيتِكَ مِثلُهُم
أَبَداً إِذا عُدَّ الفَعالُ الأَفضَلُ
مِن عِزِّهِم جَحَرَت كُلَيبٌ بَيتَها
زَرباً كَأَنَّهُمُ لَدَيهِ القُمَّلُ
ضَرَبَت عَلَيكَ العَنكَبوتَ بِنَسجِها
وَقَضى عَلَيكَ بِهِ الكِتابُ المُنزَلُ
جاءت القصيدة على وزن الكامل، ورويها حرف اللام:
متفاعلن متفاعلن متفاعلن
- متفاعلن متفاعلن متفاعلن
وقد ابتدأ الفرزدق فيها بالفخر بقبيلته وذكر أهم رموز القبيلة مشبهاً بيتهم في عزه وعلوّه بالجبال الشهقة العظيمة ثمَّ عرّج على هجاء الأخطل وعشيرته مُقتبساً من القرآن الكريم وصف بيت العنكبوت بأوهن البيوت ليصف به عشيرة جرير.
ألفاظ القصيدة اتصفت بالجزالة وقوّة الألفاظ التي تجعلها تقع في النفس وتأخذ بتلابيب العقل وتشعل الدماء في العروق وكيف يسكتُ عربي عنها وهو يرى أنها تهجو أكثر ما يفتخر به، وقد نوّع الشاعر بين الإنشاء والخبر واستخدم المؤكّدات البلاغية واستخدم أسلوب التقديم والتأخير والاقتباس كما استعمل أساليب البيان كالتشبيه.
أمّا موضوعها فقد تنقلّت بين الفخر والهجاء وهذا الموضوع هو الغالب على شعر النقائض حيث يفخر الشاعر بنفسه وعشيرته ويهجو من يناقضه، وبنظرةٍ سريعة على هذه المقطوعة بتبين لدينا بعض الخصائص الاجتماعيّة والعقدية للمجتمع حيث الفخر بالأنساب والتعالي بالأحساب مع النظر إلى القرآن الكريم على أنّه قمّة هرم الإبداع والإعجاز حيث راح الشعراء يسلكون أساليبه ويقتبسون من ألفاظه ومعانيه.
وقال جرير يًناقضه:
أَعدَدتُ لِلشُعَراءِ سُمّاً ناقِعاً
فَسَقَيتُ آخِرَهُم بِكَأسِ الأَوَّلِ
لَمّا وَضَعتُ عَلى الفَرَزدَقِ مَيسَمي
وَضَغا البَعيثُ جَدَعتُ أَنفَ الأَخطَلِ
أَخزى الَّذي سَمَكَ السَماءَ مُجاشِعاً
وَبَنى بِناءَكَ في الحَضيضِ الأَسفَلِ
بَيتاً يُحَمِّمُ قَينُكُم بِفَنائِهِ
دَنِساً مَقاعِدُهُ خَبيثَ المَدخَلِ
وَلَقَد بَنَيتَ أَخَسَّ بَيتٍ يُبتَنى
فَهَدَمتُ بَيتَكُمُ بِمِثلَي يَذبُلِ
إِنّي بَنى لِيَ في المَكارِمِ أَوَّلي
وَنَفَختَ كيرَكَ في الزَمانِ الأَوَّلِ
أَعيَتكَ مَأثُرَةُ القُيونِ مُجاشِعٍ
فَاِنظُر لَعَلَّكَ تَدَّعي مِن نَهشَلِ
وَاِمدَح سَراةَ بَني فُقَيمٍ إِنَّهُم
قَتَلوا أَباكَ وَثَأرُهُ لَم يُقتَلِ
جاءت القصيدة السابقة على وزن البحر الكامل ورويها اللام.
ابتدأ جرير كلامه مادحًا لنفسه بأنه أشعر الشعراء، وفي الواقع كان هجّاءً قيل عنه قد أسقط ما يقارب أربعين شاعرًا وأخمل ذكرهم وقيل ثمانين ونيفًا وقد خصَّ بهجائه ثلاثةً من الشعراء ثم سلك مسلك الفرزدق فاستخدم ألفاظه لينقض كلامه وراح يفتخر بنفسه وعشيرته ويحطّ من الفرزدق وعشيرته.
وخص بالذكر مُجاشعًا الذي كان يعمل حدادًا ومعروفٌ أنّ الأعمال المهنية كان يأنف العرب عن مُباشرتها وقد استعمل في قصيدته الأساليب البلاغيّة كالاستعارة والتشبيه مع جزالة الألفاظ ووقوعها في النفوس وكان مُستواه لا يقلّ عن مُستوى الفرزدق وقد اختلف الأدباء والنُّقاد على تفضيل أحدهما على الآخر.