أول من جهر بالقرآن الكريم
أوّل من جهر بالقرآن الكريم
كان الرسول -صلى الله عليه وسلّم- يجهر بقراءة القرآن في مكة ولم يكن يخشى أذى قريش، أما الصحابة لم يتمكن أحد منهم من ذلك حتّى جاء الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- فجهر به، فكان بذلك أوّل من جهر بالقرآن الكريم بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-.ref name="LzozuysxpE">موسى العازمي (2011)، اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون (الطبعة الأولى )، الكويت: المكتبة العامرية ، صفحة 277، جزء 1. بتصرّف.
قصّة أول جَهر بالقرآن
كان مشركوا قريش يتجنّبون سماع القرآن الكريم ؛ خوفاً على أنفسهم من أن يؤثّر بهم؛ فكانوا يتعرّضون بالتعذيب لكلّ من يجهر به، وقد اجتمع المسلمون ذات يوم فقالوا: لم تسمع قريش أحداً يجهر بالقرآن، فمن يفعل ذلك؛ فقال عبد الله بن مسعود: أنا أفعل، فقال الصحابة: نخاف عليك منهم، نريد رجلاً له عشيرة حتى يمنعوهم إن أرادوا إيذاءه؛ فقال -رضي الله عنه-: الله يمنعهم عنّي، وفي الضحى من اليوم التالي، كان مشركوا قريش عند الكعبة؛ فجاء عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- حتّى وصل المقام، وبدأ يرفع صوته ويقرأ سورة الرحمن واسترسل بها؛ فبدأ أهل قريش يتساءلون فيما بينهم عمّا يقرؤه؛ فلمّا أدركوا أنّه يقرأ القرآن؛ أقبلوا عليه وبدأوا يضربونه، ولمّا انتهوا رجع عبد الله -رضي الله عنه- إلى أصحابه وقد بان الضرب على وجهه؛ فقالوا له: هذا ما خشينا أن يحصل؛ فأخبرهم أنّه على استعداد أن يعود في اليوم التالي ويفعل ما فعل، فقالوا له: لا؛ فقد أسمعتهم ما يكرهون سماعه.
المستفاد من قصة الجَهر بالقرآن
تدل قصّة جهر عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- بالقرآن، على أمور عديدة، وفيما يأتي بيان لها بشكل مفصّل:
- إخفاء العبادات بشكل عام، إلّا ما جاء الأمر من الله -تعالى- إلى رسوله -صلّى الله عليه وسلّم- بالإعلان عنه والجهر به، ورسول الله -صلى الله عليه وسلّم- يخبر أصحابه بذلك؛ فقد كان رسول الله حريصاً على أن يجهر بالصلاة ، وذلك لأنّ الله -تعالى- أمره بالجهر بها، وكان مشركوا قريش يعلمون بأنّه يجهر عمداً فلا يمنعوه، وإن حاولوا المنع فلا يملكون إلى ذلك سبيلاً؛ فكانوا يلجؤون إلى الاستهزاء به وتشديد الإيذاء عليه.
- تعرّض عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- للأذى والضرب أثناء جهره بالقرآن، إلّا أنّ ذلك لم يدفعه إلى التوقّف عن التلاوة، وهكذا حال جميع الصحابة -رضوان الله عليهم-؛ فكلّما استمر الصحابة بالدعوة كانت قريش تضيّق عليهم بالإيذاء، ولكنّهم لم يتوقّفوا بسبب هذا الإيذاء، وقد كان الإسلام ينتشر بشكل واسع.
- كان يشتعل غيظ الكافرين حين يسمعون أحداً من المسلمين يتلو القرآن، ومع سماعهم يشتدّ غيظهم شيئاً فشيئاً فيتبعه إيذاؤهم للمسلمين؛ لأنّهم يعلمون حين يسمعونه أنّ الدعوة إلى الله -تعالى- ما زالت مستمرة، وأنّ أعداد الداخلين في الإسلام في ازدياد؛ فكان غيظهم الحقيقيّ من القرآن الكريم نفسه لأنّ الناس كانوا يستجيبون لدعوة الصحابة -رضي الله عنهم- بالقرآن.
مكانة عبد الله بن مسعود
عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- هو أحد السابقين إلى الإسلام، وقد اعتنق الإسلام قبل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وكان يسمّى بصاحب الستر والوساد والسواك، توفّي في الثلاثينيّات من عمره، ودفن بالبقيع، وقد كان يخدم رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- بأن يحضر السواك لرسول الله -صلى الله عليه وسلّم- ويبحث عنه في حال فقده، وقد كان هو الشخص المعروف بين الصحابة بمهمّة السواك.
وقد كان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يرعى أغناماً لعقبة بن أبي معيط قبل إسلامه؛ فمرّ به الرسول -عليه السلام- ومعه أبي بكر -رضي الله عنه-؛ فطلب منه النبيّ -عليه السلام- أن يسقيه من اللبن؛ فأخبره أنّه ليس صاحب الغنم وإنّما مؤتمن عليها؛ فطلب منه رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- أن يحضر له واحدة من الأغنام قد جفّ ضرعها؛ فأتاه بواحدة، فمسح الرسول على ضرعها ودعا؛ فأتى اللبن وشرب الرسول -عليه السلام- وأبو بكر وعبد الله -رضي الله عنهما-، ثم أمر الضرع أن يجف فجفّ، فقال له عبد الله بن مسعود: علّمني من هذا القول؛ فقال له رسول الله: (إنك غلامٌ مُعلَّمٌ)، وقد تعجّب عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- ممّا رآه من رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-، ولم يكن يعلم حينها أنّ هذه معجزة بسيطة من الكثير من المعجزات التي ستأتي بعدها، ولم يكن يعلم حينها أنّه سيكون فيما بعد أحد أعلام الإسلام الذين سيقهر إيمناهم الجاحدين من قريش وساداتها.
وقد كان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- معروفاً بين الصحابة بفهمه وفقهه وورعه، ولم يكن يسبقه بذلك أحد، وكان جميع الصحابة يشهدون له بذلك، وقد اجتمع بعضهم يوماً عند علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-؛ فقالوا: "ما رأينا رجلاً كان أحسن خلقاً ولا أرفق تعليماً، ولا أحسن مجالسة، ولا أشدّ ورعاً من عبد الله بن مسعود"، ولم يحظَ أحد من الصحابة بما حظي به عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-؛ بكثرة دخوله إلى بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-؛ فقد أعطاه الإذن بالدخول عليه في أيّ وقت شاء، ومجالسته إياه، حتّى أنه كان صاحب سرّ رسول الله، ولذلك لُقّب بصاحب السواد؛ أي صاحب السرّ، وقد كان الرسول -عليه السلام- يكنّ له الحبّ العظيم؛ فقال عنه: (لو كنتُ مؤمِّرًا على أمَّتي أحدًا من غيرِ مشورةٍ منهم لأمَّرتُ عليهم ابنَ أمِّ عَبدٍ). وقد لام الرسول أصحابه حين صعد يوماً عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- على شجرة؛ فبانت ساقيه فضحك الصحابة على ما روأه من نحافته، فقال الرسول -عليه السلام-: (ما تَضحكون لَرِجْلُ عبدِ اللهِ أثقلُ في الميزانِ يومَ القيامةِ مِنْ أُحُدٍ).
إيذاء قريش للنبي وأصحابه
انقسم الذين آمنوا بدعوة محمد -صلى الله عليه وسلّم- وصدّقوا رسالته في عهده إلى أصناف عديدة، ولم يسلم أيّ صنف منهم من التعرّض لأذى قريش وعذابها، وكان من أشدّ الناس تلقّياً للعذاب المستضعفين من المسلمين؛ فقد عذّبتهم قريش بأشكال عديدة يصعب على الإنسان أن يتحمّلها، أمّا أصحاب المكانة العالية في أقوامهم فقد نالوا حماية أقوامهم، ومع ذلك فقد تعرّضوا للأذى أيضاً، وقد كان المستضعفون من المسلمين يتعرّضون للتعذيب من قبل سادات وزعماء قريش؛ فكانوا يلبسونهم الحديد ويبقوهم تحت حرارة الشمس الحارقة، ثم يطوفون بهم في أزقّة مكة، ولم يكن يملك رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- أن يحميهم، إلّا أنّه كان يخفف عنهم ويذكّرهم بما ينتظرهم من الأجر والنعيم جزاءً على صبرهم، ويذكر لهم قصص من كانوا قبلهم وما تعرّضوا له من التعذيب، ثم يبشّرهم بنصر الله -تعالى- لهم على أعدائهم، وهو ما كان يعينهم على تحمّل ما هم فيه من الابتلاء ، حتّى تحقّق وعد الله -تعالى- لهم ونصرهم على أعدائهم وأعزّ شأنهم.