هل تسألت يوما ما معنى الحضارة
تعريف الحضارة
كلمة الحضارة في اللغة العربيّة هي عكس، وخلاف البداوة، والبادية، ويعود جَذرها إلى الفعل الثلاثيّ (حَضَر)، وقد ذكر اللغويّ النحويّ ابن فارس هذا الجَذر؛ فقال: الحاء، والضاد، والراء، يُراد بها: إيراد الشيء، ومشاهدته، ووروده. والحَضَر هي خلاف البَدو ، وسكون الحَضر تُسمَّى (حضارة)، ومن اللغويّين من يرى أنّ النُّطق الصحيح للكلمة هو الحِضارة؛ أي بكَسر الحاء، ومنهم من يلفظُها الحَضارة بفَتح الحاء، وقال الصاحب ابن عبّاد: الحِضارة، والحَضارة، وهي خِلاف البداوة، كما ذُكِر مصطلح الحضارة في مَجمع اللغة العربيّة في القاهرة، وعُرِّف على أنّه: مظهر الرُّقِي، والعِلميّ، والفنّي، والأدبيّ، والاجتماعيّ في الحَضَر.
أمّا في ما يتعلَّق بالمعنى الاصطلاحيّ، فقد تعدَّدت تعريفات الحضارة، واختلفَت من باحث إلى آخر، وفي ما يأتي ذِكرٌ لأهمّ هذه التعريفات:
- تعريف ابن خلدون الذي عرَّف الحضارة على أنّها: التفنُّن في التَّرَف، وإحكام الصنائع المُستعمَلة في وجوهه، ومذاهبه، وتأكيده على أنّ اختطاط المنازل، والبناء ، تُمثِّل منازع الحضارة التي يدعو إليها التَّرَف، وقد تطرَّق ابن خلدون في تعريفه هذا إلى انتقال الدولة من البداوة، إلى الحضارة.
- تعريف الحضارة على أنّها: نظام اجتماعيّ يُساعد الإنسان على تنمية، وزيادة إنتاجه الثقافيّ، كما أنّ الحضارة تُمثِّل النَّهْج، والعادة التي يتَّبِعُها الإنسان في حياته العامّة، وتختصُّ هذه العادة بمكان، وزمان مُعيَّنَين.
- تعريف الحضارة على أنّها بطبيعتها تُمثِّل حصيلة جهود الأُمَم كافّة؛ فهي خُلاصة محاولات الإنسان في استغلال الطبيعة، من خلال الاختراع، والتفكير ، والاستكشاف، والابتكار ، والعمل، والتنظيم؛ بهدف الوصول إلى مستوى حياة أفضل.
- تعريف الحضارة على أنّها تُمثِّل كُلّ ما صُوِّرت به علاقة الإنسان بالكون، وما وراءه، وهي كلّ ما أنجزه الإنسان، وأنشأه في أيّ شيء اتَّصل بصورة مباشرة، أو غير مباشرة به، أو بأيّ جانب من جوانب نشاطه، وعلى اختلاف العصور، والأزمان.
- تعريف الحضارة على أنّها: نظام اجتماعيّ يربط بين مجموعة من المُكوِّنات، والعناصر المعنويّة (مثل: العادات، والتقاليد، والأعراف، والأفكار، والقِيَم ، والمشاعر، والأذواق، والمفاهيم)، والعناصر المادّية (مثل: المكاسب، والحِرَف، والمَعايش، والصناعات، والألبسة، والأطعمة، والأساليب، والوسائل).
- تعريف الحضارة بمعناها العامّ، والشامل، على أنّها: الصورة الحاضرة التي يُبدعُها الإنسان لما يعتقدُه في الحياة، والكون.
صفات الحضارة
تتَّسِم الحضارة بعدد من الصفات، وفي ما يأتي ذِكرٌ لأهمّها:
- إنسانیّة بطبيعتها؛ أي أنّها ترتبط بعلاقة وثيقة مع الإنسان ، وليس الحیوان.
- موجودة، ومُستقِرّة في تفكیر الإنسان الذي تعلَّم، وأيقن بأنَّ ماضیه مُرتبِط بحاضره.
- مُتبایِنة؛ أي أنّها تختلف من مجتمع إلى آخر.
- مُشتركة فيما بينها بصفة الإنسانيّة ، وذلك على الرغم من تبايُنها.
- مُتغيِّرة مع مرور الوقت بشكل تدريجيّ، وليس بشكل مُفاجئ.
- قابلة للاستعارة؛ أي أنّه قد تستعیر أمّة ما جزءاً من حضارتها من حضارات الأُمَم الأخرى.
- مُؤثِّرة في الفرد الذي يحتكُّ بها، حيث لیس بمقدوره الهرب كُلّیاً من مُكوِّناتها.
شروط وجود الحضارة
يتوقّف وجود أيّ حضارة على ثلاثة شروط رئيسيّة مُترابِطة فيما بينها، وهي:
- الاستقرار: يُعرَّف الاستقرار بالتزام المَوضع، وعدم التنقُّل باستمرار من مكان جغرافيّ إلى آخر، ويُمثِّل استقرار أمّة ما في مكان ما شرطاً أساسيّاً، وعاملاً مُهمّاً؛ لازدهارها، ورُقِيِّ حضارتها، وتُعَدُّ الزراعة من أهمّ الأسباب التي دفعت الإنسان إلى الاستقرار، وكانت سبباً؛ لإبداع الإنسان في استحداث الآلات التي يستخدمُها في العمليّات الزراعيّة.
- التعاوُن: إنّ استقرار الإنسان في الأرض لا يكفي لإقامة حضارة، بل يجب أن يستغلَّ هذه الأرض بما يعود عليه بالنفع، والفائدة، وهذا لا يتحقَّق إلّا بوجود تعاون، وجُهد جماعيّ، وليس فرديّ، أو التنافُس مع بقيّة أفراد المجتمع ؛ والدليل على ذلك أنّ الحضارات القديمة، مثل: الحضارة السومريّة، والحضارة البابليّة، وحضارة وادي النيل، ما كانت لتنشأ لولا تعاوُن أبنائها، وأفرادها.
- الكتابة: يُشترَط لوجود التعاوُن بين الأفراد أن يكون هناك اتِّصال دائم فيما بينهم؛ ولذلك اخترعَ الإنسان الكتابة؛ من أجل تسهيل الاتِّصال مع الآخرين في أماكن مختلفة، ونَقْل ما تمّ قوله، وفِعله إلى الأُمَم، والأجيال القادمة، بالإضافة إلى حِفظ ما أبدع فيه الإنسان من مكاسب جديدة.
أسباب نشوء وانهيار الحضارات
اختلفت آراء العلماء، والمُؤرِّخين، والفلاسفة في أسباب نشوء حضارة ما، أو انهيارها، وفيما يلي ذِكرٌ لأهمّ هذه الآراء:
- الفلاسفة: رأى الفيلسوف الألمانيّ جورج هيغل الذي عاش خلال بداية القرن التاسع عشر أنّ المجتمعات تُشبه الأفراد الذين ينقلون (شُعلة الحضارة) من شخص إلى آخر، ووجدَ خلال هذه العمليّة أنّ الحضارات تنمو في ثلاث مراحل رئيسيّة، وهي (على الترتيب): حُكْم الفرد، وحُكْم طبقة من المجتمع، وحُكْم الناس كلّهم، واعتقد هيغل أنّ هذه المراحل تنتجُ عنها في النهاية الحُرّية للأفراد جميعهم، كما شبَّه الفيلسوف الألمانيّ أوسفالد شبينغلر الحضارات بالكائنات الحيّة؛ فهي تُولَد، وتنضجُ، وتزدهرُ، ثمّ تموت في النهاية، وقد ذكرَ في أحد كُتُبه أنّ الحضارة الغربيّة ستموت، وتنهار، وسوف تَحِلُّ مكانها حضارة آسيويّة جديدة.
- المُؤرِّخون: رأى المُؤرِّخ البريطانيّ أرنولد توينبي أنّ الحضارات تنشأ فقط في الظروف التي تتحدَّى فيها البيئة الإنسان، وفي المُقابل يكون الإنسان على استعداد تامٍّ للاستجابة لهذا التحدِّي، ومثال ذلك، تُؤدّي الحرارة المرتفعة، والأجواء الجافّة إلى جَعل الأرض غير صالحة للزراعة، ممّا يُشكِّل تحدِّياً للإنسان الذي يعيش على هذه الأرض، وتتمثَّل استجابته بأن يحرص على بناء أنظمة ريٍّ؛ لتحسين خصائص الأرض، أمّا رأي توينبي عن أسباب انهيار الحضارات، فإنّه يتلخَّص في ما يعتقده حول أنّ فقدان الناس للمقدرة على الابتكار هو ما يؤدّي إلى موت الحضارة.
- عُلماء الآثار القديمة: يميل معظم علماء الآثار إلى أنّ أسباب نشوء الحضارات هي: وجود البناء الاجتماعيّ، والسياسيّ للحياة، والأسلوب الذي يتمّ فيه تكيُّف الإنسان مع البيئة المُحيطة به، والتطوُّرات الحاصلة للسكّان، بالإضافة إلى اتِّخاذ رؤساء القبائل المَحلِّيين خطوات مقصودة؛ من أجل تمكين نفوذهم السياسيّ، أمّا عن سبب انهيار الحضارة، فيتَّفق معظم علماء الآثار على أنّ أهمّ أسباب ذلك هو سوء استخدام الإنسان للأرض، والمصادر الطبيعيّة الأخرى.