نظرية المحاكاة في نشأة اللغة
نظرية المُحاكاة في نشأة اللغة
برزت نظرية المُحاكاة في اللغة وتطوّرت بعد ذلك، ويُمكن إجمال الحديث عن نظرية المُحاكاة بما يأتي:
مفهوم نظرية المحاكاة
وهي إحدى نظريات نشأة اللغة التي تقول إن اللغة نشأت عن طريق تقليد الإنسان للأصوات التي كان يسمعها في الطبيعة ، مثل أصوات الرياح والحيوانات وغيرها من الأشياء، وذلك استناداً إلى الإنسان الأول الذي ظهر مُقلداً ظواهر الأشياء الحركية والصوتية للتعبير عن أفكاره ومشاعره، وقد عرض لهذه النظرية اللغوي العربي ابن جني ، والعالم اللغوي ماكس ميلر الذي أطلق عليها اسم "البو - واو"
قال ابن جني بشأن النظرية: "وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعة كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيج الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس ، ونزيب الظبي، ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد، وهذا عندي وجه صالح، ومذهب مُتقبل."
وفقاً للنظرية بدأ الإنسان تقليد أصوات الطبيعة، عاملاً على الترجمة الصوتية لأصوات الأفعال عند حدوثها، فالكلمات في البداية جاءت وفق هجاء واحد هو المتحرك وهجاء بسيط ذي مقطع ثنائي، ثم جاء الهجاء الساكن والهجاء ذي المقاطع المتعددة، وبتوالي المراحل الزمنية المُتعاقبة، تطورت الكلمات من خلال التغيير الطارئ على حروفها، وبالتالي تطورت اللغات تبعاً لاختلاف البيئات والمُجتمعات.
نظرية المحاكاة عند قدامى النحويين العرب
عرض كثير من النحويين العرب لنظرية المحاكاة، وذلك ضمن سياق دلالة اللفظ على معناه، ومن هؤلاء النحويين ما يأتي:
- الخليل بن أحمد الفراهيدي
الذي روى أنّ العرب أن كلمة "صرَّ" ترتبط ارتباطًا وثيقًا بصوت الجندب لأنّ في صوته امتدادًا واستطالة، أما البازي وهو جنس من الصقور الصغيرة فقد دلت على صوته بالفعل "صرصر" لأن فيه تقطيعًا وعدم استمرار.
- سيبويه
الذي فسّر وجود الحركات الكثيرة في المصادر التي جاءت على وزن "فَعَلان" بأنّها تدل على الاضطراب والحركة من مثل: "غليان" و"هيجان" و"طيران".
- ابن جني
الذي كان من أكثر مُؤيدي النظرية، وقد أورد بشأنها كثيرا من الأمثلة منها ما يأتي:
- رأى أنّ المصادر الرباعية المُضعفة تأتي لتكرير الفعل من مثل: "زعزع" و"قلقل".
- رأى أنّ توالي الحركات في المصادر والصفات التي تأتي على وزن "فَعَلَى" مثل "الجمزى" لحمار الوحش و"البشكى" و"الحيدى" من صفات المشي السريع، رأى أنّها تناسب سرعة الحركة وصفات المشي.
- رأى أنّ تكرير عين الفعل يدلّ على تكرير الفعل والشدة فيه من مثل: "فتَّح" وقطَّع" و"كسَّرَ".
- ابن الأثير
الذي أكد أن اللفظ إذا كان على أحد الأوزان ثم جرى نقله إلى وزن آخر أكثر منه، فلا بُدّ أن يزداد معناه، ومن هنا جاءت فكرة: "زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى" ومن المثال على ذلك فعل "اقتَدَر" الذي جاء أقوى في الدلالة على القدرة من الفعل "قَدَرَ".
مؤيدو نظرية المحاكاة
أيّد بعض علماء اللغة نظرية المحاكاة انطلاقًا ممّا يأتي:
- اشتراك بعض الأصوات في الكلمات التي تُحاكي الطبيعة في عدة لغات، مثل كلمة "همس" في اللغة العربية، والتي يقابلها كلمة "whisper" في اللغة الإنجليزية وغيرها من الكلمات المُشابهة في اللغات الفرنسية والحبشية والتركية والعبرية، وكلّ تلك الكلمات تشترك في صوت صفير السين أو الصاد، وهو الصوت المُميز لعملية الهمس في الطبيعة.
- دلالة اللفظ على معناه، بحيث يكون بين اللفظ ومدلوله دلالة طبيعية، وهي النظرية التي وُجِدت عند عند قدامى النحويين.
- التقليد الذي يبدأ في لغة الطفل التي تتطور لاحقاً إلى اللغة الطبيعية، وكذلك استخدام الشعوب البدائية الإشارات البدائية والجسمية للمُساعدة في التعبير، وذلك في دلالة على أن اللغة تبدأ مُسايرة لطبيعة الأشياء التي تبدو بسيطة ثم تنمو وتتطوّر.
معارضو نظرية المحاكاة
عارض آخرون نظرية المُحاكاة من المنطلقات الآتية:
- إن اشتراك اللغات في الكلمات المُحاكية للطبيعة أمر نادر، فالمُتحدثون بلغات مُختلفة يسمعون الأصوات الطبيعية بأشكال مُختلفة، من مثل صوت الديك الذي يُقال عنه في العربية "كوكو كوكو" وفي الألمانية "كيكيركي".
- اللفظ لا يدلّ على المعنى في كلّ الكلمات، فالعلاقة بين اللفظ والمعنى ليست علاقة طبيعية وإنّما علاقة تقليد، فضلاً عن أن دلالة اللفظ تختلف من إنسان لآخر تبعًا لاختلاف الخبرات المعرفية.
- كثير من الشعوب البدائية يتكلمون بلغات لا يظهر فيها أثر المُحاكاة والتقليد للطبيعة.
- إنّ هذه النظرية تنزل بالإنسان إلى ما هو أقل منه، فليس من المعقول أن يقلد الإنسان أصوات الكائنات المُختلفة وغيرها من الأصوات المُتواجدة في الطبيعة.