نشأة الأدب المقارن
تاريخ نشأة الأدب المقارن
نشأ الأدب المقارن في قارة أوروبا -تحديدًا في فرنسا- وظل هذا النوع من الأدب يسمو ويرتقي حتى أصبحت له أهمية خاصة به توازي أهمية الأدب الحديث، وتجدر الإشارة إلى أنّ الأدب المقارن له مدارس عديدة ومتنوعة قد نالت شهرة واسعة، وكل واحدة من هذه المدارس لها ما يُميّزها من الخصائص ويجعلها تختلف عن نظيراتها من المدارس الأخرى.
أما نشأة الأدب المقارن فقد كانت على النحو الآتي:
نشأة الأدب المقارن في أمريكا
يرتبط ظهور الأدب المقارن في أمريكا بالتحوّلات الكبيرة التي حدثت في المجال الثقافي والمعرفي فيها، خاصّة مع بداية القرن العشرين، وهو القرن الذي شهد انحسارًا وتراجعًا للفلسفة الوضعية التي كانت سائدة خلال القرن التاسع عشر.
هناك من يرى أنّ الأدب المقارن ظهر في أمريكا عام 1958م على يد الناقد الأمريكي (رنييه ويلك) أثناء إلقاء محاضرته التي كانت تحمل عنوان (أزمة الأدب المقارن) في المؤتمر الأدبي للرابطة الدولية للأدب المقارن في جامعة تشابل هيل الأمريكية؛ إذ قام بتوجيه نقد شديد للمدرسة الفرنسية للأدب المقارن.
ارتكزت المدرسة الأمريكية في الأدب المقارن على رفض جميع ما جاءت به المدرسة الفرنسية من أفكار ومعتقدات أدبية وثقافية، وفي المقابل فقد وضعت لنفسها أسسًا جديدة من أجل أن تحكم دراسات المقارنة.
نشأة الأدب المقارن في فرنسا
تعدّ فرنسا أول بلد ظهر فيها الأدب المقارن، وكان ذلك في بداية القرن التاسع عشر واستمرت بعد ذلك، ويبدو أنّ أول من استخدم مصطلح الأب المقارن فيها كان أستاذ الأدب الفرنسي أبيل فيلمان خلال إلقاء محاضرته عن علاقات الأدب الفرنسي بالآداب الأوروبية في جامعة السوربون، وفيها تناول التأثيرات المتبادلة بين الأدب الفرنسي والأدب الإنجليزي.
يُطلق البعض على الأدب المقارن الفرنسي المدرسة التاريخية؛ وذلك لأنّه قام على المنهج التاريخي، كما أنّه يُحاول باستمرار تقصّي مختلف الظواهر التي تؤثر بين مختلف الآداب.
نشأة الأدب المقارن في روسيا
أدّى انتشار النظرية الماركسية في روسيا ودول أوروبا الشرقية إلى تشكيل نسق سياسي واجتماعي وثقافي جديد، فنشأ ما بات يعرف بالأدب المقارن الذي تمّ تحديد طبيعته ومفاهيمه وفقًا لما كان سائدًا من أفكار ومعتقدات.
أصبحت تُعرف بالمدرسة الروسية أو السلافية للأدب المقارن، وحقيقة هي إحدى المدارس المهمة في هذا المجال، وقد بنيت على أساس أيديولوجي كان قد نتج بشكل مباشر عن الفلسفة الماركسية، ولها نسق ثقافي مختلف عمّا جاءت به كلا المدرستين الفرنسية والأمريكية.
نادت المدرسة الروسية بضرورة ربط الأدب بالثقافة والتاريخ ومفاهيم الجمال بكل شعب من شعوب العالم، وبضرورة عدم إهمال الفروقات القومية بين تلك الثقافات والنظر إليها بكل موضوعية، كما أكّدت على ضرورة ربط المقارنة الأدبية بالمكونات الأخرى للأدب خاصة المكونات الاجتماعية.
نشأة الأدب المقارن في الوطن العربي
نشأت الدراسات المقارنة في الوطن العربي خلال عام 1904م، إذ إنّها تُعدّ بمثابة البداية الحقيقة لهذا النوع من الأدب في المنطقة العربية، وكان ذلك من خلال ما كتبه سليمان البستاني في مقدمة كتابه الذي كان عبارة عن ترجمة للإلياذة للشاعر الإغريقي هوميروس .
حوت تلك المقدمة المميزة على الكثير من المقارنات، لا سيما بين الشعر الملحمي عند العرب والشعر الملحمي عند الأوروبيين، وقارن بين الشعر الجاهلي والشعر اليوناني من عدة أوجه، فضلًا عن المقارنة بين هوميروس و ابن الرومي .
فتحت تلك المقدمة الباب أمام العديد من الدراسات والكتابات فيما بعد؛ حيث قام العديد من الأدباء والكتاب العرب بشرح وبيان أصول الأدب المقارن، ولعلّ من أبرزهم الكاتب الكبير فخري أبو السعود الذي كتب ونشر ما يقارب (45) مقالة تقع ضمن دراسات المقارنة خاصة بين الأدب العربي والأدب الإنجليزي.
عوامل نشأة الأدب المقارن
هناك العديد من العوامل التي أدت إلى نشوء الأدب المقارن ولعل من بين أهم تلك العوامل ما يأتي:
- النشاط الثقافي
لعلّ من أهم العوامل التي أدّت إلى نشوء الأدب المقارن هو النشاط المتزايد الذي شهده القرن التاسع عشر في مختلف مجال العلوم الإنسانية، التي كانت لها الكثير من الممارسات الأدبية لمختلف المدارس، فقد ظهرت لدى الألمان، والإنجليز، والفرنسيين، والهولنديين، وغيرهم من الشعوب.
- المنظومات الثقافية والأدبية
من العوامل التي ساعدت على نشأة الأدب المقارن كثرة المنظومات الثقافية والأدبية والمعرفية، وهو الأمر الذي دفع الكثير إلى اللجوء إلى فكرة المقارنة بين مختلف تلك الأنظمة، لا سيّما أنّ المقارنة هي الوسيلة الأكثر فاعلية في تحقيق الوجود، كما أنها وسيلة جيدة لإثبات تفوق جهة على جهة أخرى.
- الدافع الرومانسي
كان الدافع الرومانسي السبب الرئيس وراء ظهور الدراسات المقارنة؛ حيث تناغم المظهر الرومانسي كثيرًا مع الفكر الليبرالي ، الأمر الذي أدّى إلى استخدام فلسفة واحدة جامعة للآداب والفنون، وبالتالي كان أسلوب المقارنة من الضرورات في هذا المجال.
- الظروف السياسية
كان للعوامل السياسية التي سادت قارة أوروبا أثر كبير في نشأة هذا النوع من الآداب، وشيوع الأفكار والمعتقدات المختلفة، وهو الأمر الذي دفع الكثير إلى الاهتمام بأسلوب المقارنة سواء أكان في الآداب أم الفنون أم العلوم الأخرى.
مناهج الأدب المقارن
ظهرت العديد من المناهج الأدبية في الأدب المقارن مختلفة من حيث الأسس والمفاهيم، ويبدو أن هذا التعدّد في المناهج يعود إلى اختلاف نشأة الأدب المقارن من الأساس، ولعل من أهل المناهج التي سادت هذا النوع من الأدب ما يأتي:
المنهج النقدي
يُطلق البعض عليه المنهج الأمريكي أو المدرسة الأمريكية، وهو منهج ظهر على يد الناقد الأمريكي رينيه ويليك الذي ذهب إلى انتقاد أصحاب المنهج التاريخي (الفرنسي) في تعريفهم للأدب المقارن، وعاب عليهم تمسكهم بمنهجية القرن التاسع عشر.
يرى أنّ الأعمال الأدبية ليست حاصل جمع المصادر والتأثيرات بقدر ما هي التزام بأهداف البحث الأدبي المقارن، وهي الأساس المنطقي والعلمي لأي عمل فني، وهي كذلك التي تتولى تفسيره وتقويمه، وهذا المفهوم يتماشى مع أصحاب مدرسة النقد الحديث التي سادت أوروبا وأمريكا.
من أبرز الداعيين لهذا المنهج: همري ريماك، وهاري ليفين، وجون فليتشير وغيرهم، وهم يرون أنّ الأدب المقارن هو أدب يُعنى بدراسة كل ما هو خارج حدود البلد الواحد، كما يدرس مختلف العلاقات بين الأدب والمجالات الأخرى مثل: الرسم، والنحت، والموسيقى وغيرها من العلوم، بمعنى آخر إنّ الأدب وفقًا لهذا للمنهح النقدي هو عبارة عن مقارنة أدب بأدب آخر أو بمجموعة من الآداب الأخرى.
المنهج التاريخي
يُطلق البعض عليه المنهج الفرنسي أو المدرسة الفرنسية، كونه نشأ أوّل الأمر في فرنسا، ولعل أهم ما يميز هذا المنهج هو النزعة القومية التي كانت سائدة خلال القرن التاسع عشر، وبالتالي التصقت به بصورة مباشرة على الرغم من السمة العالمية التي يتسم بها هذا المنهج.
استكمل المنهج التاريخي مفهومه العام على يد مجموعة من المنظرين الأوائل أمثال: فان تيجم، وجويار، وجان ماري، إذ رأى هؤلاء أنّ الأدب المقارن ما هو إلا دراسة علاقة التأثير والتأثر بين الأدب الفرنسي والآداب الأوروبية الأخرى، ويشترط أن تكون هذه الدراسة مدعومة بالوثائق والمصادر.
وفقًا لهذا القول أصبح الأدب المقارن فرعًا من فروع تاريخ الأدب، ويطلق على أصحاب هذا الرأي من الرواد الفرنسيين أصحاب المنهج التقليدي.
ظهر مَن يُخالف هذا الرأي مع مرور الزمن، وقد تزعمهم كلّ مِن روبي وأندريه روسو الذين وجهوا الكثير من النقد لما ذهب إليه الرواد التقليديّون في تعريفهم للأدب المقارن، ورفضوا ما ذهبوا إليه من خلال قولهم إنّ الأخذ بهذا المنطق يؤدي إلى تركيز المركزية الأوروبية، في حين أنّ مِن المفترض أن يتم التركيز على العلاقات الداخلية للنصوص الأدبية.
المنهج السلافي
يُطلق عليه البعض المنهج الأوروبي الشرقي أو الماركسي أو المدرسة الروسية، وقد تأخّر ظهور هذا المنهج كثيرًا في روسيا، ويعود السبب في ذلك إلى أنّه كان يعد من الآداب التي لم تحظَ بالأهمية خلال مرحلة حكم ستالين للبلاد؛ إذ عدّ هذا النوع من العلوم علمًا برجوازيًا لا يمكن السماح له بالانتشار أو الاستخدام في دولة تحكمها المبادئ الاشتراكية.
كان لفكتور جيرو متسكي الفضل في وضع أسس هذا المنهج وسياسته العامة وكذلك كل من: ديونيز، وهنريك، وألكسندرديما، وربرت فايمان، يرى أصحاب المنهج السلافي أنّ الأدب جزءٌ من البناء المجتمعي؛ حيث يمثل القمة وهو بناء أيدولوجي تقف خلفه العديد من المفاهيم الاقتصادية والاجتماعية ويرتبط بينهم صلة التأثير المتبادل.
بمعنى آخر إنّ الواقع الاجتماعي والاقتصادي يتحكمان بعملية الإنتاج الأدبي في البلاد ويحددان أشكاله ومضامينه، وكلاهما يزودانه بالمادة والموضوع ووسائل الإنتاج، لذلك رأى البعض أن هذا المنهج الذي مثل حالة وسطية بين المنهج التاريخي والنقدي حقق الكثير، كونه منفتحًا على مستجدات الحياة.
أهم رواد الأدب المقارن الأوائل
من أهم رواد الأدب المقارن الأوائل التالية أسماؤهم:
- أبيل فرانسوا فيلمان
(1790م- 1870م)، مؤلف وناقد ومترجم، له العديد من الأعمال الأدبية وقد كان يشغل منصب أستاذ في كلية الآداب، كان يسعى إلى التقريب بين رجال الدين والأكاديميين، عمل على تطوير كلية الآداب من حيث المناهج والدورات التي تقدمها.
- جان جاك أمبير
(1800م - 1864م)، مؤرخ فرنسي وعالم لغوي، أثار إعجاب الشاعر والفيلسوف الألماني غوته بسبب ما قدّمه من أعمال أدبية مميزة، عمل أستاذًا للأدب الأجنبي في جامعة السوربون عام 1830م.
- أديب إسحاق
(1856م - 1885م)، كاتب ومترجم من سوريا، قضى معظم حياته في مصر متفرغًا للعمل في الصحافة والأدب؛ حيث كان يعمل في كبرى الصحف المصرية، مثل: التقدم، ومصر، والتجارة، وترجم العديد من الروايات الفرنسية، وألّف عددًا من الروايات.
- علي باشا مبارك
(1823م - 1893م)، مؤلف وإداري كبير، وهو من أسّس دار العلوم (دار التعليم) في مصر، وكان مسؤولًا عن تحديث نظام التعليم الموحد في دولة مصر، وقد أقدم على تغيير مناهج المدارس الدينية، وأكّد على تعليم اللغات الأجنبية والعلوم، كما شجّع على ترجمة الكتب المدرسية التقنية ونشرها ليطلع عليها الناس.