من هو فاتح الصين
الصين والإسلام
ترجِع علاقة الصين والعرب إلى فترة طويلة قبل الإسلام، فقد كان العرب يسافرون إلى بلاد السند والهند الصين حالياً طلباً للتّجارة وجلب التَّوابل المختلفة والعطور والأقمشة الفاخرة، وقد دخل الإسلام إلى الصين عن طريق مِحورين رئيسين؛ وهما المِحور البرِي من الغرب، وتمثَّل ذلك في فتح تركستان الشرقيَّة في عصر الدولة الأُموية، حيث وصلت الغزوات إلى كاشغر، أي الحدود الغربيَّة للصين، وكان لِطريق التِّجارة والقوافِل بين الصين وغرب آسيا دور كبير في انتشار الإسلام، أمّا المحور الثاني فهو المحور البحريّ، وكان ذلك في نهاية عهد الخلفاء الرّاشدين، حيث وصل الإسلام إلى شرقي الصين ، وقد وصل أول مبعوث مُسلِم إلى الصين سنة 21هـ، ثم توالت البعثات الإسلاميّة والدبلوماسيّة والتِجارية إليها، وانتشر الإسلام داخلها عن طريق المراكز السَّاحلية.
قُتيبة بن مسلم الباهلي فاتح الصين
أدْخَلَ قُتيبة بن مسلم الباهلي الإسلام إلى بلاد الصين ، وهو صاحبُ الشخصيَّة العظيمة والجهاديَّة السَّاحرة البطل المِغوار، وكبير مُجاهدي الدولة الأُموية، وهو الذي نَشَر الإسلام في أقصى رُبوع الأرض، وقد أسلمَ على يديه الآلاف حُباً وإعجاباً به وبِشجاعته، فلم يُهزَم في أيّ معركة كما لم يَفِر من أيّ منها، إنّه أمير المُجاهدين قتيبة بن مسلم بن عمرو بن حصين بن ربيعة الباهلي، فاتح الصين العظيم.
نَسَب قُتيبة بن مسلم الباهلي
وُلِد قتيبة بن مسلم سنة 48هـ، ويقال أيضاً أنَّه وُلِد سنة 49هـ، وكان والده مُسلِم بن عمرو من أصحاب مُصعَب بن الزٌّبير والي العِراق، نشأ قُتيبة على ظهر الخيل، ورافق السَّيف والرُّمح طيلة حياته، وكان مُحباً للجِهاد، وقد كانت العِراق في تلك الفترة مليئة بالفِتن، فَعَمِد وُلاة العِراق إلى إشغال أهلها بالجِهاد في سبيل الله، وذلك بهدف نشر الإسلام وخدمته، ومن هنا كانت أرض العِراق مركز انطلاق الحملات الجهاديَّة على نطاق الجبهة الشرقيَّة للدولة الإسلامية، وكان قتيبة يشترك في هذه الحملات وهو في سن مبكر، وبسبب شجاعته الملحوظة وخبرته القتالية لفت انتباه القادة العظماء، ومنهم المهلب بن أبي صفرة، وأوصى به والي العراق الشهير الحجاج بن يوسف الثقفي، فاختبره في عدة مهام، وذلك ليعلم هل هو أهل للثقة وللمهام التي سَيُوكلها له فيما بعد أم لا.
نَشْأَة قتيبة بن مسلم الباهلي
نشأ أمير المجاهدين قتيبة في باهلة النجدية، تعلَّم القرآن والفقه والفروسيَّة وفنون القتال، وقد كان شُجاعاً وبارِعاً في حمل السَّيف والرُّمح، وتوقّع مستقبله العظيم في القتال القائِد المهلب بن أبي صفيرة.
رحلَة قتيبة بن مسلم الباهلي الجهادِيَّة
بدأت رحلة قتيبة الجهاديَّة عندما ولاه الحجاج بن يوسف الثَّقفي على إقليم خراسان في سنة 86هـ، تولَّى المهلب بن أبي صفرة ولاية خراسان من 78هـ وحتى 86هـ، ثمَّ رشَّح قتيبة لِيتولّاها من بعده دافعاً الحجَّاج بن يوسف الثَّقفي إلى استثمار طاقات الشَّباب في قيادة المُجاهدين، وقد سارَ قتيبة على نهج المهلب، وهو نهج الهجمات المتلاحقة والقويَّة على الأعداء، دون أن يترِك لهم أيّ فرصة لِجمع شتاتهم أو التَّحضير لِلقتال ورد الهجوم، ولكنَّه تفوَّق بأنّه كان يَضَع خطة ثابته بهدف ووجهة محددة لِكُلّ هجمة، ويتابع مسيرته في القتال غير آبهٍ بِما سيواجهه من مصاعب مُعتمِداً على إيمانة بالله سبحانه وتعالى في تحقيق النَّصر وشجاعته في القتال.
الفُتوحات
قسَّم قتيبة أعماله إلى أربع مراحِل لكل منها هدف مُحدَّد، وهذه المراحِل هي:
- المرحلة الأولى: استعاد فيها قتيبة طخارستان السفلى في 86هـ بحملته عليها، وثبَّت أقدام المسلمين فيها، وهي الآن جزء من أفغانستان والباكستان.
- المرحلة الثانية: أتمّ فيها فتح بخارى والقرى والحصون التي حولها وذلك بين سنتي 87-90هـ ، وقد كانت من أهم مدن بلاد ما وراء النهر وأقواها وأكثرها سكاناً.
- المرحلة الثالثة: نشر الإسلام في وادي نهر جيحون في هذه المرحلة والتي استمرت من 91- 93هـ، وفتح إقليم سجستان وهو في إيران الآن، وفتح إقليم خوارزم وهو الآن بين دول إيران وباكستان وأفغانستان، وفي هذه المرحلة وصلت فتوحاته إلى مدينة سمرقند في آسيا، وضمها إلى الدولة الإسلاميَّة نهائياً.
- المرحلة الرابعة: وفيها أكمل قتيبة فتح حوض نهر سيحون، ثم انتقل إلى الصين ، فتحها وأوغل فيها ووصل إلى مدينة كاشغر، ثم جعلها قاعدة إسلامية، وكان فتح الصين آخر ما وصلت إلية الجيوش الإسلامية في شرق آسيا.
وكان أمير المُجاهدين قتيبة السَّبب في دخول قبائِل الأتراك الإسلام، فعندما قام المُسلمون بِالفتوحات في شرق المعمورة، كان هناك نوعان من القبائِل يَفصِل بينهما نهر المرغاب، وهما القبائل الساسانية أو الفارسيَّة، والقبائل التُّركيَّة، حيث دخلت القبائل الفارسيَّة الإسلام في عهد الخلفاء الرَّاشدين، أمّا القبائل التُّركيُّة الأخرى فقد كانت كثيرة وواسعة الانتشار، وكان لقتيبة الفضل الأول بعد فضل الله عزَّ وجل في دخولهم الإسلام، فقد دخل الأتراك الإسلام لإعجابهم في شخصيَّة قتيبة الجهادية وبطولاته ورجولته.
وكان لِدُخول قبائِل الأتراك من الغزية والمغول والقراخطاي والقوقازيون والأيجور والبلغار دورٌ كبيرٌ في نَشْر الدَّعوة الإسلاميَّة في قارة آسيا بِأكملها، وكان ذلك من أعظم إنجازات الفتوحات الإسلاميَّة، وأسدى الأتراك خدمات جليلة لِلإسلام فقد ظهر منهم الغزنويون والغوريون الذين فتحوا الهند، بالإضافة إلى أبطال الشِّيشان وداغستان، وكل ذلك يعود إلى قتيبة بن مسلم.
صفات قتيبة بن مسلم الباهلي
جسَّدت شخصيَّة قتيبة قيم الإسلام وتعاليمه تجسيداً حقيقياً، وجمعت من الصِّفات ما يُرشِّحه لِيكون بطلاً عِملاقاً في تاريخ الجِهاد الإسلامي، حتّى إنَّه بمجرد ذكر اسمه كان يبُث الرُّعب في قلوب الأعداء، إضافة إلى طاعته الكامِلة من قِبَل أتباعه ومواقفه البطوليَّة، فقد كان من أعظم الفاتحين في الإسلام، وكان سبباً في إسلام أمم كبيرة، حتّى إنَه أوصل رسالة الإسلام إلى الصين النَّائية، ومن المواقف التي تدل على شدَّة هيبته في نفوس الأعداء شهادة الأصبهند أحد الملوك الأتراك، وذلك عندما سُئِل أيهما أكثر هيبة وعظمة قتيبة بن مُسلِم أم يزيد بن المهلب، فقال عندها: (لو كان قتيبة بأقصى حجر في الغرب مكبّلًا، ويزيد معنا في بلادنا والٍ علينا لكان قتيبة أهيب في صدورنا وأعظم من يزيد)، ومن صفاته الجليَّة:
الإيمان بالله تعالى والتوكُّل عليه
كان قتيبة واحداً من أشجع المُقاتلين الذين تغلغل الإيمان بالله تعالى في قلوبهم، وقد ظهر ذلك بوضوح في إقدامه على الجِهاد وقتال الكفار على الرّغم من الفارق الكبير بين الجيوش المُقاتِلة، إلّا أنَ توكله على الله وحده كان المُحفِّز والمشجع له في حملاته القتالية، حتّى إن ملك الصين أقوى ملوك الدُّنيا كان يهابه ويطلب الهُدنة معه، ومن أروع مواقفه الإيمانيَّة والتي كانت سبباً كبيراً في اعتناق الكثير لِدين الإسلام، عندما فتح مدينة سمرقند وكانت قاعدة لملك الأتراك الهياطلة، اشترط على أهلها شرطين، الأول أنْ يبني في المدينة مسجِداً لِيُصلِّي فيه، ويضع فيه منبراً يخطب عليه، والشّرط الثّاني أنْ يُحطِّم الأصنام والمعابِد في المدينة، وعندما جُمعت الأصنام فوق بعضها البعض أمر بإحراقِها، وعندها بكا أهل المدينة وقالوا له: (إنَّ فيها أصناماً قديمة من أحرقها هلك في الحال)، فكان ردّ قتيبة عليهم: (أنا أحرقها بيدي فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون)، ثمّ أضرم النّار فيها وهو يكبّر حتّى احترقت.
الغَيْرة على الإسلام والمُسلمين
من أروع مواقف غيرته على الإسلام والمُسلمين عند فتحه لمدينة بيكند التَّابعة لِبخارى ، حيث صالَحه أهل المدينة، فجعل عليهم والياً من المُسلمين لِيتولّى شؤونهم، وترك بالمدينة مجموعة من المُسلمين بهدف تعليم النَّاس أمور دينهم الإسلام، وبمجرد رحيله عنهم نقضوا العهد وقتلوا الوالي المُسلم، ومثَّلوا بجثث من بَقِي في المدينة من المُسلمين، وعندما سَمِع قتيبة بذلك كان قد حاصر مدينة أخرى فَتَركها ورجع بِسرعة إلى بيكند، وحاصرها من جديد حصاراً شديداً لِمدَّة شهر كامل، عندها حاول أهل المدينة مُصالحته من جديد إلّا أنَّه رَفَض، وأصرَّ على القِتال، ولِتعليم الكفَّار درساً قاسياً ولِردعهم قتل المُقاتلين وسبى ذريتهم وغنم أموالهم، وتبيّن بعد ذلك أنّ الرجل الذي حرَّض أهل المدينة على نقض العهد هو رجل كافر أعور العين، وقد وقع أسيراً عند المُسلمين، وعندما رآى قتيبة قال له: (أنا أفتدي نفسي بخمسة آلاف ثوب حريري قيمتها ألف ألف)، عندها أشار أمراء جيش الفتوحات عليه بِقبول ذلك، ولكنَّه قال: (لا والله، لا أروّع بك مسلمًا مرة أخرى)، ثم أمر بقتله.
الصبرُ في المواقِف العصيبة
من صفات القائد قتيبة أنّه كان يصبِر ويصمِد في المواقف العصبية والشّديدة، بل كان أيضاً يتَّخِذ القرارات السَّليمة وسط المخاطِر، ومن مواقفه العظيمة في الصَّبر أنّه بعد فتحه لِمدينة بخارى فرَّ ملكها وردان شاه منها، وبعث رسائل لِلملوك الأتراك الكُفَّار يطلب منهم نقض العهد مع قتيبة، وبالفعل قاموا بنقض العهد معه، واجتمعوا عليه وحشدوا الجيوش لِقتاله، وعندما علم قتيبة بالأمر أعدَّ جيشه وحرَّضه على جِهاد الكُفار، وعندها أبدى المُسلمون شجاعة لا مثيل لها، وانتصروا عليهم وقتلوا الكثير منهم، وعندها صلب قتيبة الكافرين على بُعد 4 فراسخ بجوار بعضهم البعض وفي جميع الاتِجاهات، وذلك بهدف ترويع الكفار وردعهم.
الخبرة في الرجال
كان قتيبة يعرف أشد المعرفة كيف يختار رِجاله، فقد كان خبيراً بالنفوس البشريَّة وكيفيَّة توجيهها، ومن الأمثلة على ذلك أنّه طلب من الحجاج بن يوسف أنْ يتم توزيع أموال الغنائم على المقاتلين حتّى تقوى نفوسهم وقلوبهم ويتحمسوا للجِهاد، ووصلت خبرته بالرِجال إلى أعدائه، فكان يعلم كيف يحاربهم، والوقت المُناسب لِمهادنتهم، ففي فتحه لِبيكند حاول أهلها أن يخدعوه وأرسلوا جاسوساً كان يعمل لحساب قتيبة ثمّ مال لِأهلها، فحاول أن يخدع قتيبة وأن يوهمه أن الحجاج قد عزله من منصبه إلّا أنّه فطِن إلى ذلك وقتله، وشدّد الحصار على المدينة حتى فتحها.
مَقتل قتيبة بن مسلم الباهلي
كان قتيبة بن مسلم مُخلِصاً للحجَّاج بن يوسف الثَّقفي إخلاصاً شديداً، وخاف من انتقام سليمان بن عبد الملك حينما تولّى الخِلافة، حيث إنّه كان معادياً للحجَّاج بن يوسف، كما أنّ قتيبة كان قد ساند الوليد بن عبد المَلِك في قراره في خلع سُليمان من ولاية العهد لِيعطيها لابنه، وعندها أرسل ثلاثة خِطابات مع رجل من المقرَّبين، الأول يهنِّئه بالخِلافة ويُذكِّره بولائه لعبد الملك والوليد، والكتاب الثّاني يخبره فيه بالفتوحات التي حصلت وتعظيم قدره عن الملوك العجم، ويذمّ فيه المهلب، وأنّه سوف يخلع يزيد بن المهلب عن خراسان إن أعطاه الولاية عليها، والكتاب الثّالث كان فيه قرار خلعه.
وكان قتيبة قد أمر الرَّسول أنْ يسير على خطة محدّدة، وهي أنْ يدفع الكِتاب الأول لِسليمان بن عبد الملك، فإن كان يزيد بن المهلب حاضِراً يقرأه ويسلِّمه له، ثم يعطيه الكتاب الثاني فيقرأه ويسلّمه له أيضاً، ثمَّ يعطيه الكتاب الثَّالث فيقرأه ويسلمه له، وإن قرأ الكتاب الأول ولم يسلمه ليزيد فليحبس الكتابين الآخرين، وبالفعل وصل رسول قتيبة وكان يزيد بن المهلب حاضراً، وأعطى الكتاب الأول لسليمان فقرأه ودفعه لِيزيد، ثم قرأ الكتاب الثاني ودفعه لِيزيد ثم قرأ الثالث فأصبح وجهه شاحِباً، وأبقاه في يده، ثمّ أمر بعدها أن يبقى الرّسول عندهم، ولما جاء الليل بعث بإحضاره وأعاطه العهد الذي كان قتيبة قد طلبه بشأن خراسان، ولكنّ قتيبه تسرّع وخلعه، وجمع ضده العديد من الرَّجال، إلّا أنَّ حركته باءت بالفشل، وقُتِل بِسهم أصابه به وكيع التَّميمي، وبعد أن قتله قطع رأسه وأرسله إلى سليمان، وكان ذلك سنة 96هـ في بلدة اسمها فرغانة، وكان عمر قتيبة عندما استشهد 48 عاماً فقط.