من هو ديك الجن الحمصي؟
نشأة ديك الجن الحمصي
ديك الجن الحمصي (777م - 849م) هو أبو محمد عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن يزيد بن تميم الكلبي الحمصي، واحد من أشهر شعراء العصر العباسي ، يُقال أن السبب في منحه لقب "ديك الجن" بسبب لون عينيه الأخضر.
ويقال أيضًا إنّ تسميته بهذا الاسم يعزو إلى قصيدة رثاء كتبها في ديك عمير بعد أن تم ذبحه، وُلد ديك الجن وتُوفّي في حمص بسوريا، ويرجع أصله إلى مدينة تُدعى سلمية بالقرب من حماة، ويقال إنه لم يفارق بلاد الشام، وعلى الرغم من ذلك فقد فتن الناس في العراق بجمال شعره.
ولا يعرف لماذا خشي أن يقارع فحول الشعراء، فلامه الشاعر أبو نواس حينما مر بالشام على ذلك، وقال له: "اخرج فلقد فتنت أهل العراق"، وهناك بعض الآراء التي تقول إنّ ديك الجن قد خرج من الشام وزار مصر بعد أن تركها أبو نواس.
حياة ديك الجن الحمصي
قضى ديك الجن الحمصي معظم حياته في مدينة حمص التي وُلد وتربّى فيها، وعاش حياة حافلة بالأحداث، فعلى الرغم من أنه عاش طفولة عادية مثل غيره من الأطفال، حيث لا يذكر التاريخ الكثير عنها، إلا أننا نستطيع القول إنّه درس على يد المعلمين والعلماء في المساجد، نظرًا لكمّ المعرفة والعلوم الذي كان لديه.
أمّا فترة شبابه فقد قضاها لهوًا وركضًا وراء الملذات وقول الشعر الذي انقسم عنده إلى قسمين:
- شعر ماجن يذكر فيه الخمر والنساء
- وشعر الحكمة والغزل العفيف في زوجته ورد والمدح والرثاء في آل البيت.
وبالنسبة لحياته في فترة شيخوخته فهي لا تختلف كثيرًا عن حياته في شبابه، لكن زاد عليها حزنه وتأثره بعد أن قتل زوجته ورد نتيجة مكيدة حاكها له ابن عمه.
شخصية ديك الجن الحمصي
تشكّلت شخصية ديك الجن الحمصي نتاج عدد من العوامل الذاتية والموضوعية، مثل النشأة وطبيعة علاقته بأسرته وقبيلته والبيئة التي عاش فيها وغيرها، وتتمثل ملامح شخصية ديك الجن الحمصي في:
- الشعور بالفخر بقبيلته
التي كان واحد منها "قبيلة كلب"، لا بسبب تعصّب قبلي، لكن بسبب نصرة قبيلة كلب للإسلام.
- الشعور بالفخر بنسبه غير العربي
حيث يرجع أصله إلى جذور فارسية، وهذا الفخر زرعته فيه عائلته.
- الميل للخوف من الزمن وتقلباته وعدم ثقته فيه
بل وعدم ثقته في نفسه وفي مظهره.
- المجون
فعلى الرغم من وقوف قبيلة ديك الجن الحمصي لنصرة الإسلام، إلا أنه كان ذا شخصية ماجنة لا تعرف إلا اللهو.
- التناقض
حيث كان ديك الجن شخصية متناقضة إلى حد ما، فكان يعاني من تنافر معرفي سببه توتر داخلي من التشتت بين مجموعة من الأفكار.
- الثقافة والعلم
حيث كان ديك الجن ماهرًا وعالمًا باللغة والأدب، وقد أعجب بشعر الصعاليك الرافضين المتمردين.
- الدونية
حيث كان ينظر لذاته نظرة الجاني، فكان يرى أنه ضحية نفسه، وأنه السبب في تعاسته.
- الخوف من المواجهة واللجوء إلى الفرار
والسبب في هذا تعرضه الدائم للانتقاد ممن حوله بسبب سوء أفعاله.
- التلون الذي ظهر في تباين تصرفاته وتعامله مع كل طبقة من الناس حسب ما يناسبها
فنجد أنّ معاملته مع طبقة الأمراء والحكام تختلف عن معاملته مع شعراء العصر، وتعامله مع زملائه وأصحابه.
- السيطرة
حيث إنّ ديك الجن كان ذا طبيعة مسيطرة، لا يمكن أن تقبل الانقياد والامتثال، فكان لا يعرف للخضوع طريقًا، وكان يرى أنه الوحيد الذي يستحق أن يملك زمام أموره وحياته.
- المراوغة
حيث اتّسمت شخصية ديك الجن بالمراوغة واللامبالاة قولًا وفعلًا، فلا ينظر للأخلاق ولا يعنيه الضمير.
- المعاناة من الاضطرابات نفسية
فكان ديك الجن يكيل بطبعه إلى الاكتئاب والحزن والمعاناة من القلق والتوتر كذلك اتجه للشك بكل من حوله والغيرة المرضية التي ربما سببها إدمانه للخمر.
ديك الجن وزوجته ورد
كان لديك الجن جارية تُدعى ورد، فلمّا أحبّها ديك الجن دعاها للإسلام ليتزوجها، فوافقت وتزوجا، ولما ضاق حاله رحل إلى سلمية وقصد أحمد بن علي الهاشمي ومكث عنده لفترة طويلة، وانتشرت في هذه الأثناء إشاعة تقول إنّ ورد على علاقة بغلام تهواه، وكان ابن عمه هو من نشر هذه الإشاعة انتقامًا من ديك الجن بعد أن هجاه في قصائده.
عندما رجع ديك الجن سمع بالشائعات، وعاد لزوجته وسألها عن الأمر فأنكرت علمها بأي شيء، حتى جاء الغلام الذي حرضه ابن عمه على الذهاب لورد ومناداتها باسمها على الباب، فعندما سمعه ديك الجن ينطق اسمها نعتها بأبشع الصفات، وأخرج سيفه وضربها به حتى قتلها.
وخرج الحمصي إلى دمشق حتى طلبه أمير دمشق ليحاسب على جنايته وليخبره بحقيقة الأمر كاملًا فندم ندمًا شديدًا وظل يبكي شهرًا، ولا يأكل من الطعام إلا ما يبقيه حيًا.
على هذا اشتهر ديك الجن بالغيرة المذمومة التي أدّت لقتله محبوبته بسبب سوء ظنه، ويُقال إنّ ديك الجن جلس عند رأس ورد يبكيها بعد قتلها وأنشد هذه الأبيات الشهيرة:
يا طَلْعَةً طَلَعَ الحِمَامُ عَلَيها
وجَنَى لَها ثَمَرَ الرَّدَى بِيَدَيْها
رَوّيْتُ مِنْ دَمِها الثّرى ولَطَالَما
رَوَّى الهَوَى شَفَتَيَّ مِنْ شَفَتيْها
وأجلت سَيْفي في مَجَالِ خناقها
ومَدَامِعِي تَجْرِي على خَدَّيْها
فَوَحَقِّ نَعْلَيْها فما وطئ الحَصَى
شَيءٌ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ نَعْلَيْها
ما كانَ قَتْليِها لأَنِّي لَمْ أَكُنْ
أبكي إذا سَقَطَ الغبار عَلَيْها
لكنْ بخلت على سواي بِحُسْنِها
وأَنِفْتُ مِنْ نَظَرِ الغلام إِليها
علاقة ديك الجن بشعراء عصره
كان ديك الجن على علاقة بعدد كبير من شعراء عصره أمثال أبي تمام، ويقال إنّ ديك الجن الحمصي قد أعطاه بعضًا من شعره حتى يكسب منه في بداية حياته ومشواره، لذا كانت تجمعهما علاقة ود وصداقة وحب كبيرة، وعندما مات أبو تمام رثاه ديك الجن بأبيات شعرية قال فيها:
فجع القريض بخاتم الشعراء
وغدير روضتها حبيب الطائي
ماتا معًا فتجاورا في حفرة
وكذاك كانا قبل في الأحياء
كان ديك الجن على علاقة بأبي نواس الذي زاره وهو في طريقه إلى مصر، وعندما طرق بابه فتحت له الجارية وأخبرته أنّه غير موجود، فطلب أبو نواس من الجارية أن توصل له رسالة جعلته يخرج ويقابله على الفور، حيث قال لها: قولي له اخرج فقد فتنت أهل العراق بقولك:
موردة من كف ظبي كأنما
تناولها من خده فأدارها
كان ديك الجن على علاقة بدعبل الخزاعي أيضًا؛ حيث قصد داره دون أن يكشف له عن نفسه، فتعجب دعبل وتساءل لما يستتر وهو أشعر الشعراء، فكشف له نفسه واعتذر منه وتناشدا الشعر.
خصائص شعر ديك الجن الحمصي
لدى الجن الحمصي طريقة مميزة وأسلوب خاص به في الشعر، حيث إنّه لم يسر على نهج الشعر الجاهلي، بل نجد أنه تأثر في شعره ببعض الألفاظ والمعاني التي تشبه ما كان يأتي في أبرز قصائد شعراء الجاهلية الصعاليك ، ومن أهم خصائص شعره:
- وضوح ألفاظه الشعرية وتميزها وانسيابها وألفتها
فكان لها رنين وسحر وموسيقى، وكانت مؤثرة ودقيقة.
- استخدام الكثير من الأفعال
حيث كان ديك الجن مولعًا باستخدام الأفعال الماضية والمضارعة في أبياته الشعرية.
- اختيار القواف الصعبة
على الرغم من هذا كان ديك الجن بارعًا فيها، ولديه القدرة على تغييرها عدة مرات في القصيدة الواحدة.
- ضم العديد من البحور
مثل: المتقارب، والهزج، والكامل، والوافر، مع براعة التوفيق بين الموسيقى الداخلية للقصيدة والموسيقى الخارجية، الأمر الذي كان يعطيها إيقاعًا إنسيابيًا
- الصور الفنية والجمالية
عبرت أشعار ديك الجن عن مكنونات النفس بدقة، والتي تراوحت بين الصور المفردة والصور المركبة.
- استخدام المحسنات اللفظية والمعنوية
حرص ديك الجن على استخدام المحسنات اللفظية والمعنوية بنسبة معتدلة ودعمه بصور جمالية تزيدها روعة، كالربط بين الطباق والاستعارة، واستخدام المقابلة والجناس.
الأغراض الشعرية في شعر ديك الجن الحمصي
الأغراض الشعرية في شعر ديك الجن الحمصي هي:
- الغزل
تميّز بالاعتدال ورقة الإحساس والعاطفة، وانقسم إلى نوعين: غزل عفيف للمرأة العفيفة، وغزل صريح للمرأة الماجنة.
- الرثاء
انقسم إلى رثاء غزلي مثل الذي رثى به زوجته ورد، رثاء مذهبي والذي يظهر في رثاء آل البيت أو رثاء أصدقائه وشعراء عصره، ورثاء الحيوانات الذي رثى فيه ديكًا.
- الفخر
انقسمت خصائص شعره في الفخر إلى قسمين على النقيض من بعضهما، فنجده في شعره يفخر بالعرب تارة، ويفخر بالعجم تارة أخرى.
- الهجاء
تميّز هجاؤه بالعنف والقوة والعدوانية، حتى إنه هجا ابن عمه، وهجا أهل حمص.
- الوصف
برع في شعر الوصف، لا سيما وصف الطبيعة من أرض وسماء وأمطار وغيوم وحيوانات وطيور.
- الحكمة
نبع شعر الحكمة عنده من تجاربه الشخصية ومعاناته، فاصطبغ بملامح انعدام الثقة والأمان والخيانة.
- المدح
كان يمدح آل البيت لدرجة المغالاة، ويهجو كل من يرى أنه عدو لهم.
آراء أعلام الأدب في ديك الجن الحمصي
يرى أبو نواس أنّ ديك الجن الحمصي شاعر فتن أهل العراق وهو في الشام؛ لذلك فقد زاره في بيته أثناء رحلته إلى مصر لمدح الخصيب، بينما كان أبا تمام يكنّ لِديك الجن حبًا ومودة كبيرة للعلاقة التي جمعت بينهما، والتي بدأت بأن أعطى ديك الجن بعضًا من شعره لأبي تمام كي يتكسب منه في بداية حياته.
قال داود الأنطاكي في كتابه تزيين الأسواق في أخبار العشاق إنّ ديك الجن الحمصي كان أديبًا ذكيًا وشاعرًا لبيبًا، يتميز شعره بالرقة واللطافة والظرافة، إلا أنه كان أكثر العاشقين فسقًا وقساوة مع زوجته ورد.
قال صاحب الأغاني إنّ ديك الجن شاعر عظيم على مذهب أبي تمام نفسه في الشعر، أمّا ابن رشيق فقال إنّ كلًّا من ديك الجن وأبي تمام من القلة التي تجيد الرثاء من الشعراء.
نماذج من شعر ديك الجن الحمصي
لديك الجن الحمصي الكثير من الأشعار المؤثرة، لا سيما بعد مأساته وقتله لزوجته ورد بسبب الغيرة الأثيمة، وكذلك أشعاره في الهجاء والمدح والرثاء والغزل، ومن أبرز نماذج شعره:
- قصيدة للورد حسن وإشراق إذا نظرت:
للوَرْدِ حُسْنٌ وإِشْراقٌ إذا نَظَرَتْ
إليهِ عَيْنُ مُحِبٍّ هاجَهُ الطّرَبُ
خافَ الملالَ إذا دامتْ إقامَتُهُ
فصارَ يَظْهرُ حينًا ثُمَّ يَحْتَجِبُ
- قصيدة بأبي وإن قلت له بأبي:
بِأَبي وإِنْ قَلّتْ لَهُ بأبي
مَنْ ليسَ يَعْرِفُ غيرَهُ أَرَبِي
قَرْطَسْتُ عَشْرًا في مَودَّتِهِ
لِبُلوغِ ما أَمّلْتُ مِنْ طَلَبي
ولقدْ أُراني لَوْ مَددْتُ يَدِي
شَهرينِ أَرْمي الأرضَ لَمْ أُصِبِ
- قصيدة عين بكت وادي العقيق بمثله:
عينٌ بكت وادي العقيق بمثلِهِ
دمعًا لأَجل فقيدها لا أَجلهِ
يا عينُ في الوادي الملاحُ كثيرةٌ
فتعوضي عشراً بها من أَهلهِ
هيهاتَ أيُّ فتى أَعاظته العصا
عن مقلتيه وإِن هدته لسبلهِ
بأبي حبيب ما دعاه إِلى النوى
بغض ولكن باعث من جهله
أَيام صحبتهِ جفاه وزاره
بعد السقامِ بكتبهِ وبرسلهِ
حذراً عليه وليس يدري أَنه
بالهجر أَول من سعى في قتلهِ
- قصيدة: إني ببابك لا ودي يقربني:
إنِّي بِبابِكَ لا وُدِّيْ يُقَرِّبُني
ولا أَبي ولا نَسَبِي
إِنْ كانَ عُرْفُكَ مَذْخُورًا لِذِي سَبَبٍ
فاضْمُمْ يَدَيْكَ على حُرٍّ أَخي سَبَبِ
أَوْ كُنْتَ وافَقْتَهُ يَوْمًا على نَسَبٍ
فاقْبِضْ يَدَيْكَ فإنِّي لَسْتُ بالعَرَبِيْ
إنِّي امْرُؤٌ بازِلٌ في ذُرْوَتَيْ شَرَفٍ
لِقَيْصَرٍ ولِكِسْرَى مَحْتِدِي وأَبي
فإنْ وتَحْظَ بها وإِنْ يَضِقْ
لا يَضِقْ في الأَرْضِ مُضْطَرَبِيْ
حَرْفٌ أَمُونٌ ورَأْيٌ غَيْرُ مُشْتَرَكٍ
وصَارِمٌ مِنْ سُيوفِ الهِنْدِ ذُو شُطَبِ
وخَوْضُ لَيْلٍ تَهابُ الجِنُّ لُجّتَهُ
ويَنْطَويْ جَيْشُها عن جَيْشِه اللّجِب