من الذي بنى قبة الصخرة
المسجد الأقصى المبارك
ربّما لم تلقَ مدينة في العالم كلّه عبر التاريخ اهتماماً كبيراً ودمويّاً للدرجة التي حازتها مدينة القُدس والمسجد الأقصى المبارك، ذلك أنّها مدينةٌ مُقدّسة لدى كلّ أبناء الديانات السماوية، وسالت لأجل ذلك دماءٌ كثيرة جداً. إنّ المسجد الأقصى المبارك هو كلّ ما دار عليه السّور في بلدة القدس القديمة، ويقع في زاويتها الجنوبيّة الشرقيّة بمساحةٍ تبلغ 144 دونم، ويحتوي على مجموعة من القباب والأبنية والمحاريب والمساطب، يبلغ عددها حوالي المئتين معلم تاريخي، من أبزر هذه المعالم على الإطلاق قبة الصّخرة المشرّفة، وهي القبّة الواقعة في قلب المسجد مائلةً إلى اليسار قليلاً، وسُمّيت بهذا الاسم نسبةً للصخرة المشرّفة التي عرج النبيّ صلى الله عليه وسلّم منها إلى السماء في رحلة الإسراء والمعراج ، وهي تُعتبر هذا اليوم مصلّى النساء، ومن أهمّ المعالم أيضاً في المسجد الأقصى المبارك : الجامع القِبَلي، والمصلّى المرواني، والأقصى القديم و مسجد البراق، وسبيل قايتباي والمدرسة الأشرفيّة.
قبّة الصخرة المشرّفة
أورد صاحب كتاب (مثير الغرام بفضائل القدس والشام) محمد بن سرور الشافعي في وصفه لاهتمام المسلمين وتعظيمهم لقبّة الصخرة المشرّفة أنّهم عندما بنوا مسجد قبة الصخرة كانوا في كل اثنين وخمس يطحنون الزعفران ويمزجونه بالمسك والعنبر والماورد الجوري ويخمرون هذا المزيج ليلاً، وفي الغداة يأمرون الخدام، فيدخل هؤلاء الحمام فيغتسلون ويتطهرون ثم يرتدون الثياب النظيفة ويأتون إلى مسجد الصخرة حاملين ما تخمّر بالأمس، وبعد أن يغسلوا الصخرة يأتون بمجامر الذهب والفضة فيها العود والند الممزوج بالمسك والعنبر فيرخون الستور حول الأعمدة كلها، ثم يحملون البخور ويدورون حول الصخرة ثم ينادي المنادي في صف البزازين؛ إلا أنّ الصخرة قد فُتِحَت للناس فمن أراد الصلاة فيها فليأتِ، وكان يقف على كل باب من أبواب المسجد عشرة من الحجّاب، ومتى دخله المصلون اشتمّوا رائحة البخور والمسك والعنب.
ما بين البناء والتأسيس وإعادة الإعمار لقبة الصخرة
إنّ قبّة الصّخرة مرّت على مراحل تاريخيّة عديدة شهدت بناءها وإعادة الإعمار فيها ابتداءً من العَهد الأموي، وامتداداً لكلّ عهود الخلافة الإسلاميّة.
مرحلة البناء والتأسيس
شهد العهد الأموي أكثر مرحلة بناءً داخل أسوار المسجد الأقصى المبارك؛ إذ إنّهم شيّدوا قبّة الصخرة المشرّفة، وقاموا ببناء المسجد القِبَلي، ففي سنة 66 للهجرة شرع مهندسو الدولة الأموية ببناء القبّة، وأبدعوا في عمارتها إبداعاً مذهلاً؛ حيثُ استمرّ البناء لمدّة ست سنوات؛ أي انتهت في 72 للهجرة. أمّا عن الصّخرة المشرّفة، فدارت حولها الكثير من القصص، فمن الناس من قال بأنّ لها نوراً، ومنهم من قال بأنّها معلّقة في السماء، ومنهم من قال بأنّها لحقت برسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة الإسراء، والصحيح أنّ مُجملها خرافات ليس لها نصيبٌ من الصحّة بحسب أقوال الباحثين، فهي ليست أكثرَ من صخرة طبيعيّة كانت في السابق قبلةَ أنبياء بني إسرائيل، وهي الصّخرة التي عرج منها النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء، وفيها تجويفٌ طبيعيٌ يُدعى مغارة الأرواح، وهي ظاهرة للعيان حتى يومنا هذا.
مراحل إعادة الإعمار
تعرّضت مدينة القدس لعوارض طبيعية عديدة خلال تاريخها، فكان لا بدّ من إعادة صيانتها بين الفينة والأخرى، وممّا يُذكَر أنّ المدينة قد تعرّضت لزلزالين في العهد العباسي؛ ممّا دعى الخلفاء لإعادة ترميم ما تضرّر من المسجد والقبّة، وتعرّضت المدينة أيضاً لزلزالين عنيفين في العهد الفاطمي حتى أنّه في أحدِهما وقعت القبّة على الصّخرة، فتمت إعادة الترميم آنذاك، وفي فترة الاحتلال الصليبي تعرّضت القبّة إلى محاولات لطمس معالمها وصبغها بمعالم صليبيّة، لكنّ الناصر صلاح الدين الأيوبي أمر بإعادتها إلى ثوبها الإسلامي الأنيق بعد التحرير مباشرة، وفي العهد المملوكي والعثماني اكتست القبّة بأجمل لوحات الفسيفساء الثمينة، وتم تجديد ما لَزم وخَرب طوال السنين الماضية، وفي العصر الحديث تتعرّض القبّة لمحاولات تخريب وطمس لمعالمها الإسلامية من قِبَل الاحتلال الصهيوني وصبغها بثوبٍ صهيوني لا ترتضيه، كما تقوم السلطات الأردنية بشكل رئيس بعمليات ترميمٍ مستمرّة.
الناحية الجمالية والهندسية في تصميم قبة الصخرة
إنّ المخطط الهندسي لبناء قبّة الصخرة قد أظهر إبداع المهندس المسلم في التصميم، فقد بُنيت القبّة على ثلاث دوائر هندسيّة، ومع العناصر المعماريّة الثلاث التي جاءت محصّلة تقاطع مربّعين متساويين، وكذلك التثمينتين الداخلية والخارجية والتي نتج عنهما رواق داخلي مُثمّن الأضلاع. أما عن القبّة، فهي صُمّمت لتكون الدائرة المركزيّة التي تحيط بالصّخرة، وهي تقوم على أربع دعامات حجريّة واثني عشر عموداً مكسوّة بالرّخام، تحيط الدعامات بالصّخرة بشكل دائري ومنسّق، ويتخلل كل دعامة حجريّة ثلاثة أعمدة رخاميّة، ومن المعلوم أيضاً بأنّ الجدران الداخليّة والخارجيّة للبناء كانت قد كُسيَت بألواح الفسيفساء والأحجار الكريمة المنوّعة والأصداف الحجريّة، وبُنيَت بأساليبَ ونقوش شاميّة مميّزة، كلّ ذلك أعطى للمكان بهاءً منقطع المثيل.
عبد الملك بن مروان باني قبّة الصّخرة
هو عبد الملك بن الحكم بن أبي العاص، ويُكنّى أبا الوليد، وُلِدَ في سنة 26 للهجرة، وكان قبل الخلافة عابداً زاهداً فقيهاً مُلازِمَاً للمساجد، كانت أيامه أيام صراع سياسي في الدولة الإسلاميّة ؛ إذ إنّه حارب واستطاع القضاء على خلافة عبدالله بن الزبير، وحارب الخوارج، وواجه ثورات داخلية متعددة، وشهدت دولته عدداً من الفتوحات الإسلاميّة، وكان من أبرز ولاته الحجاج الثقفي.
اختلفت الآراء في الدوافع التي جعلت عبد الملك بن مروان يأمر ببناء قبة الصخرة، فمنهم من رآه تعظيماً لبيت الله المسجد الأقصى، ومنهم من رأى بناءه سياسياً ليصد الناس عن بيعة عبد الله بن الزبير في مكّة، لكنّه عبّر عن فكرته تجاه هذا البناء بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَّا إلى ثلاثةِ مساجِدَ : المسجِدِ الحرامِ والمسجِدِ الأقصى ومسجدي هذا).