مظاهر التجديد في شعر بشار بن برد
نشأة بشار بن برد ومصادر شعره
نشأ بشار بن برد في البصرة لجدٍ فارسي كان على المجوسية وأبٍ وأم كانا عبدين ويبدو أنَّ أمه كانت رومية، وكان بشار نفسه عبداً في بداية حياته، وولدته أمه أعمى، فكانت هذه الأسباب كفيلة بجعله ناقماً على المجتمع العربي، وما زاد نقمته فقده لاثنين من أولاده.
نشأ في بني عقيل من قبيلة قيس التي تبع لها بالولاء، فأخذ عنها السليقة اللغوية، وكانت نشأته في البصرة في بيئة كثر فيها الهجاء فكان أول ما تفتقت قريحته الشعرية بالهجاء، وكان قد تردد على حلقات المتكلمين والذين اشتغلوا بالفلسفة فاجتمعت جميع هذه الأسباب لتكون عقلية بشار بن برد وتصبغها بطابع الزندقة الذي كان سبباً في موته.
أغراضه الشعرية والتجديد فيها
عاصر بشار بن برد فترتين هما الحكم الأموي والحكم العباسي، ويعد بشار بن برد شاعر المُحدثين (الشعراء من غير العرب) ورأس طبقتهم بلا منازع، وقد حافظ على شكل القصيدة العربية وأوزانها المعتبرة، وكان تجديده على مستوى الموضوعات والصور الفنية.
فجمع بين القديم والحديث والأصيل والدخيل، ومع أنه كان أعمى منذ ولادته، إلا أنه جاء بصورٍ عجر من أبصروا عن الإتيان بمثلها، وقد جمع إلى ذلك أسلوب الحياة الجديد الذي اختلف عن أسلوب البداوة في شعره، وظهر ذلك في معانيه الشعرية، كما تعددت موضوعاته بين المديح
والغزل والهجاء وغيرها.
المديح
المديح هو أكثر الأغراض الشعرية التي وصلت بشار بالتراث القديم، إذ إنه سار على نهج الشعراء في المديح منذ الجاهلية؛ فكان يذكر الأطلال ورحلة الناقة وصولاً إلى مدح الممدوح بالشمائل التي درج العرب على التفاخر بها كالشجاعة والكرم وغيرها، وهو من أقل الأغراض التي جدد فيها، ويظهر تجديده في إضفاء طابع المبالغة الذي يعدُّ جديدًا على الذائقة العربية، إلى جانب توليد معانٍ جديدةٍ استوحاها من المعاني التقليدية.
كقوله:
يَلَذُّ العَطاءَ وَسَفكَ الدِماءِ
- وَيغدو عَلى نِعَمٍ أَو نِقَم
فَقُل لِلخَليفَةِ إِن جِئتَهُ
- نَصوحاً وَلا خَيرَ في مُتَّهَم
إِذا أَيقَظَتكَ حُروبُ العِدا
- فَنَبِّه لَها عُمَراً ثُمَّ نَم
فَتىً لا يَنامُ عَلى ثَأرِهِ
- وَلا يَشرَبُ الماءَ إِلاّ بِدَم.
فالشجاعة وسيلان الدماء من الأمور التي كان الشاعر يمدح بها ممدوحه، أما أن يجعله متعطشاً للدماء ويشرب الدماء مع الماء فهذا لا يعهد عن العرب، ثم أن يجعل الخليفة يرسل قائده ويعود لنومه فهذا أيضاً لم يعرف عن العرب، وبشار في هذه المعاني مجددٌ ولعله استوحاها من ثقافته الفارسية، ومن مظاهر التجديد ذكر بعض الصور الني استوحاها من الحياة التي يعيشها كوصف السفينة بدل الناقة فيقول:
وَعَذراءَ لا تَجري بِلَحمٍ وَلا دَمٍ
- بَعيدَةِ شَكوى الأَينِ مُلحَمَةِ الدَبرِ
إِذا طَعَنَت فيها القَبولُ تَشَمَّصَت
- بِفُرسانِها لا في سُهولٍ وَلا وَعرِ
وَإِن قَصَدَت دَلَّت عَلى مُتَنَصِّبٍ
- ذَليلِ القَرى لا شَيءَ يَفري كَما تَفري
تُلاعِبُ نينانَ البُحورِ وَرُبَّما
- رَأَيتَ نُفوسَ القَومِ مِن جَريِها تَجري.
شعر الصداقة
أدخل بشار بن برد شعر الصداقة في موضوعاته، والذي استوحاه من رسالة ابن المقفع في الصحبة ،فهو بهذا أدخل موضوعاً جديداً، وسلك طريقاً لمن جاء بعده لينظم القصائد التي تتحدث عن الصداقة كموضوع أساسي، وفي ذلك يقول:
أَخوكَ الَّذي إِن رِبتَهُ قالَ إِنَّما
- أَرَبتُ وَإِن عاتَبتَهُ لانَ جانِبُه
إِذا كُنتَ في كُلِّ الذُنوبِ مُعاتِباً
- صَديقَكَ لَم تَلقَ الَّذي لا تُعاتِبُه
فَعِش واحِداً أَو صِل أَخاكَ فَإِنَّهُ
- مُفارِقُ ذَنبٍ مَرَّةً وَمُجانِبُه.
الفخر
عاش بشار في العصر الأموي الذي ظهرت فيه العصبية القبيلة، وسرى مع هذه العصبية فراح يفتخر ببني قيس الذين يتبع لهم بالولاء فيقول:
مِنَ الحَيِّ قَيسٍ قَيسِ عَيلانَ إِنَّهُم
- عُيونُ النَدى مِنهُم تُرَوّى سَحائِبُه
إِذا المُجحِدُ المَحرومُ ضَمَّت حِبالَهُ
- حَبائِلُهُم سيقَت إِلَيهِ رَغائِبُه.
فما كادت الدولة الأموية تنتهي ويظهر العنصر الفارسي الذي زادت قوته في العصر العباسي، حتى نرى بشار يتنكر للعرب وينتسب لغيرهم، وتتحول عصبيته القبلية لعصبيةٍ للجنس غير العربي.
فيقول:
أَنا اِبنُ مُلوكِ الأَعجَمينَ تَقَطَّعَت
- عَلَيَّ وَلي في العامِرينَ عِمادُ.
ويتغنى بأصله الفارسي وبأخواله من الروم فيقول:
بِأَنَّني ذو حَسَبٍ
- عالٍ عَلى ذي الحَسَبِ
جَدّي الَّذي أَسمو بِهِ
- كِسرى وَساسانُ أَبي
وَقَيصَرٌ خالي إِذا
- عَدَدتُ يَوماً نَسَبي.
وأن يوجد شاعرٌ يتغنى بالأصل غير العربي فهذا لم يوجد قبل بشار بن برد.
الهجاء
يبرز تجديد بشار بن برد في الهجاء بأمرين الأول نزعته الشعوبية وعدائه للجنس العربي، وهذا لم يعرف عن شاعرٍ قبله، ويزدري على العرب معيشتهم وضنك العيش الذي يواجهونه فيقول:
تَقولُ اِبنَتي إِذ فاخَرَتها غَريبَةٌ
- مُؤَزَّرَةٌ بِالوَبرِ في شَوذَرٍ قَدَد
لَها والِدٌ راعٍ إِذا راحَ عِندَها
- بِأَشوِيَةٍ مِن قَلبِ ضَبٍّ وَمِن كَبِد
أَبي نَجلُ أَملاكٍ وَزَورُ خَليفَةٍ
- يَلينُ لَهُ بابُ الهُمامِ إِذا وَفَد
طَلوبٌ للِأَيسارِ المُلوكِ إِذا غَدا
- وَأَكرَمُ أَيسارِ المُلوكِ مِنَ الصَفَد
وَأَنتِ لَقاةٌ بَينَ خَلفٍ وَأَكلُبٍ
- مَتاعٌ لِمَن جازَ السَبيلَ وَمَن قَصَد
وَإِنَّكِ مِن قَومٍ عَلَيهِم غَضاضَةٌ
- تَرى غِيَراً بِالنَفسِ مِن عَيشِها النَكِد
مُعاوِدَةٌ حَملَ الهَشيمِ بِكَفِّها
- عَلى كاهِلٍ قَد كادَ يَأوَدُ أَو أَوِد
لَشَتّانَ ما بَيني وَبَينَكِ في التُقى
- وَفي الحَسَبِ الزاكي وَفي العَيشِ وَالحَفَد
سَبَقتُكِ فَاِرضَي بِالصَغارِ فَإِنَّما
- رُزِقتِ وَلَيسَ الرِزقُ كَالسابِقِ السَنَد.
والأمر الثاني هو هجاؤه الفاحش الصريح الذي أبت أنفس العرب ذكره قبل بشار.
الغزل
استعمل بشار في غزله المعاني التي سبقه إليها الشعراء، واستلهم منهم الغزل العذري كالذي وجد عن مجنون ليلى، والغزل الصريح كالذي وجد عند عمر بن أبي ربيعة، وزاد عليهم بغزل الفاحش، دون أن يراعي الأعراف ولا الدين، فهو فارسي الأصل، وقد هجا الجنس العربي فكيف يتبع أعرافه، وعرف عنه الزندقة والإلحاد، فكيف يرضخ لحكم الشريعة، إضافةً إلى ذلك فإنه استلهم العناصر الحضارية في غزله، ولعل أبرز تجديد له في الغزل هو تهميشه لحاسة البصر في الإحساس بالجمال فهو أعمى، وبناءً على هذا أعلى من شأن بقية الحواس كالسمع والشم والتذوق في الإحساس بالجمال، وفي ذلك يقول:
يا لَيلَتي تَزدادُ نُكرا
- مِن حُبِّ مَن أَحبَبتُ بِكرا
حَوراءُ إن نَظَرَت إلَيكَ سَقَت
- كَ سَقَتكَ بِالعَينَينِ خَمرا
وَكَأَنَّ رَجعَ حَديثِها
- قِطَعُ الرِياضِ كُسينَ زَهرا
وَكَأَنَّ تَحتَ لِسانِها
- هاروتَ يَنفُثُ فيهِ سِحرا
وَتَخالُ ما جَمَعَت عَلَي
- ـهِ ثِيابَها ذَهَباً وَعِطرا
وَكَأَنَّها بَردُ الشَرا
- بِ صَفا وَوافَقَ مِنكَ فِطرا
جِنِّيَّةٌ إِنسِيَّةٌ
- أَو بَينَ ذاكَ أَجَلُّ أَمرا
وَكَفاكَ أَنّي لَم أُحِط
- بِشَكاةِ مَن أَحبَبتُ خُبرا
إِلّا مَقالَةَ زائِرٍ
- نَثَرَت لِيَ الأَحزانَ نَثرا
مُتَخَشِّعاً تَحتَ الهَوى
- عَشراً وَتَحتَ المَوتِ عَشرا
تُنسي الغَوِيَّ مَعادَهُ
- وَتَكونُ لِلحُكَماءِ ذِكرا.