مراحل كتابة القرآن الكريم
مراحل كتابة القرآن الكريم
كتابة القرآن الكريم زمن النبي
تكفّل الله -تعالى- للنبيّ -عليه الصلاة والسلام- بحفظ القُرآن الكريم؛ فلذلك لم تكن هُناك حاجة لتدوينه، ولكن طلب من بعض الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- كتابته؛ لما في ذلك من الحفاظ على نصّه من الضّياع أو النسيان، والتيسير على الناس قراءته وتعلّمه، وقد كانت غالبية العرب أُميّة، ولذلك اتّخذ النبيّ مجموعةً من الصحابة -رضي الله عنهم- لكتابة ما ينزل عليه من القُرآن، ومن أشهرهم؛ زيد بن ثابت الأنصاريّ -رضي الله عنه-.
وانتهى الأمر إلى كتابة القرآن مُفرّقاً على الأدوات التي كانت مُتوفّرةً في ذلك الوقت؛ كالرّقاع*، والألواح، والعُسُب*، ومرّت هذه المرحلة من الكتابة بمرحلتين من التّدقيق؛ الأولى: يكتب الصحابة ما يُملى عليهم من النبي -عليه الصلاة والسلام-، وبعد الانتهاء منه يقرأه مرةً أُخرى؛ لمعالجة ما كان فيه من سقطٍ للكلمات، والثانيّة: مرحلة التأليف والترتيب؛ وتكون بجمع الآيات المُتفرّقة ووضعها في مكانها من السورة، فكان ذلك أساساً لرسم المُصحف ؛ من خلال كتابته في السُطور، وحفظه في الصدور، ومن الأدلّة على هذه الكتابات ما يأتي:
- الدليل الأول: إطلاق الله -تعالى- كلمة الكتاب على القُرآن في عددٍ من الآيات، كقوله -تعالى-: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ)، وكلمة الكتاب تدُلّ على أنه كان مكتوباً، وكذلك إطلاق صفة الكتابة على القُرآن، كقوله -تعالى-: (رَسُولٌ مِّنَ اللَّـهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً* فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ).
- الدليل الثاني: نهْي النبي -عليه الصلاة والسلام- عن السّفر بالقُرآن إلى أرضٍ فيها عدوّ، أو مسّه من غير طهارة؛ فهذه أدلّةٌ تُثبت أنه كان مكتوباً في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-.
- الدليل الثالث: موافقة النبي -عليه الصلاة والسلام- للصحابة -رضي الله عنهم- على كتابة القُرآن، لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: (لا تَكْتُبُوا عَنِّي، ومَن كَتَبَ عَنِّي غيرَ القُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ)؛ فهذا الحديث فيه دلالةٌ على جواز كتابة القُرآن.
- الدليل الرابع: تعيين النبي -عليه الصلاة والسلام- عدداً من الصحابة لكتابة القُرآن عند نُزوله، فقد جاء عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قوله: (كُنْتُ جارَه فكان إذا نزَل الوحيَ أرسَل إليَّ فكتَبْتُ الوحيَ).
- الدليل الخامس: أمْر النبي -عليه الصلاة والسلام- لِكُتّاب الوحي بوضْع الآيات التي تنزل في مكانها من السورة، ومُراجعته إيّاها معهم بعد الكتابة.
وقد خصّص النبي -صلى الله عليه وسلم- مجموعةً من الصحابة -رضي الله عنهم- لمهمّة كتابة القُرآن عند نزوله على النبي، وسُمّي هؤلاء الصحابة بِكُتّاب الوحيّ، ومنهم: الخُلفاء الراشدون ، وزيد بن ثابت، وأُبيّ بن كعب، ومعاوية بن أبي سفيان، ويزيد بن أبي سفيان، وخالد بن سعيد بن العاصي، وحنظلة بن الربيع، والزبير بن العوام، وعامر بن فهيرة، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن الأرقم، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن رواحة، وخالد بن الوليد، وثابت بن قيس.
كتابة القرآن الكريم زمن أبي بكر الصديق
كتب كُتّاب الوحي بأمرٍ من النبيّ -عليه الصلاة والسلام- القُرآن الكريم، ولكنّه لم يكُن مجموعاً في نُسخةٍ واحدة، بل كانوا يعتمدون على الحُفّاظ منهم، وفي زمن الخليفة أبي بكر -رضي الله عنه- استُشهِد عددٌ كبيرٌ من حُفّاظ القُرآن في معركة اليمامة، فجاء عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وعرض على الخليفة أبي بكر -رضي الله عنه- فكرة جمع القُرآن في مُصحفٍ واحد، فاستشار الصحابة -رضي الله عنهم-، حتى انشرح قلب الخليفة للفكرة.
واختار الخليفة أبو بكر الصديق لتنفيذ هذه المهمة زيد بن ثابت -رضي الله عنه-؛ لاجتماع عددٍ من الصّفات فيه، وهي: مواهبه التي لم تجتمع في غيره من رجاحة عقله، وورعه، وأمانته، ودينه، وخُلُقه، بالإضافة إلى أنه شهد العرضة الأخيرة للقُرآن*، وكان من كُتاب الوحيّ زمن النبي -عليه الصلاة والسلام-، فاعتمد في كتابته على ما كان مكتوباً في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، وما كان محفوظاً عند حُفّاظ الصحابة -رضي الله عنهم-، ولم يقبل شيئاً من القُرآن حتى يُشهد اثنين عُدول* على أن هذا كان مكتوباً في عهد النبوّة، وكانت هذه الكتابة تحت نظر الخليفة أبي بكر وعُمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، ولمّا انتهى من كتابته وجمعه جعلوه في بيت أبي بكر، ثُم جُعل عند عُمر، وبعد وفاتهما جُعُل في بيت حفصة أُم المؤمنين -رضي الله عنها-.
كتابة القرآن الكريم زمن عثمان
توسّعت الفُتوحات الإسلاميّة في عهد الخليفة عُثمان بن عفان ؛ ممّا أدّى إلى اختلاف النّاس في قراءتهم للقُرآن، فأدرك الصحابيّ حُذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- خُطورة هذا الأمر، فاقترح على الخليفة إدراك هذا الأمر قبل تفرُّق الناس في القرآن؛ ممّا قد يؤدي إلى وقوع التحريف فيه، فبعث إلى حفصة لتُرسل له المُصحف الذي جُمع في عهد أبي بكر؛ وذلك حتى يقوم بنسخه ثُمّ يردّه إليها، ووضع أربعةً من الصحابة لنسخ هذا المُصحف، وهم: زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام -رضي الله عنهم-، فقاموا بنسخه في ستّة نُسَخٍ، وكانت مُناسبةً للأحرف السبعة* التي نزل بها القرآن، كما كانت موافقةً للرسم حقيقةً وتقديراً، فأمر عثمان -رضي الله عنه- بتوزيعها على البلاد الإسلاميّة، فأرسل ثلاثة نُسخٍ إلى الكوفة ودمشق والبصرة، ونسختين إلى مكة والبحرين، أو إلى مصر والجزيرة، ونسخة أبقاها في المدينة ، فجمع الأُمّة على مُصحفٍ وحرفٍ وإمامٍ واحدٍ، حتّى لُقّب بجامع القُرآن، وكان المنهج الذي اتّبعه الصحابة -رضي الله عنهم- بكتابة القرآن في عهد عُثمان، كما يأتي:
- تجريد الكتابة من النّقط والشّكل.
- تحديد قواعد للرسم، ومنها: ما كان لا يُقرأ إلا على وجهٍ واحد، كقوله -تعالى-: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، وما كان يُقرأ بأكثر من وجهٍ، فكتبوها برسمٍ واحدٍ يوافق جميع وجوه القراءة ، ككلمة (يكذبون) سواءً أكانت من غير تشديدٍ أو بالتّشديد، ومنها أيضاً ما كان يُقرأ من الكلمات بأكثر من وجهٍ، فكتبوها برسمٍ واحدٍ يوافق جميع وجوه القراءة تقديراً، ككلمة (ملك) التي تتضمّن قراءة مالك كذلك، وما كان من الكلمات التي لا يدلّ الرسم فيها على أكثر من قراءة، فكتبوها برسمٍ يدُل على قراءةٍ أحياناً، وأحياناً أُخرى برسمٍ يدُل على قراءة ثانيّة.
وجاء وضع الصحابة لهذه القواعد في الكتابة؛ لبيان تَلَقّي الصحابة القُرآن من النبي -عليه الصلاة والسلام- بجميع وجوه القراءة، وإحاطة كتابتهم لجميع القُرآن من جميع الوجوه التي تطرأ على طريقة قراءته، وحتى لا يُقال عنهم: إنهم حذفوا شيئاً منه، أو منعوا أحداً من قراءته بأحد الأحرف التي نزل بها؛ بشرط روايتها بالتواتر عن النبي -عليه الصلاة والسلام-.
حفظ القرآن الكريم
يُعدّ القُرآن الكريم الكتاب الوحيد الذي تكفّل الله -تعالى- بحفظه من التّحريف وضمن له البقاء، وأكّد الله -تعالى- هذا المعنى بقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، وهذه الميّزة تقرّرت في الكثير من آياته، ويُصدّقها الواقع، ويعترف بها غير المُسلمين، فالقرآن هو الكتاب الذي جاء به النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- من غير تحريفٍ أو تبديل فيه طيلة الأزمان.
الهامش
* الرِّقاع: قطعة من الورق أو الجلد، تُستخدم للكتابة عليها.
* العُسُب: جمع عسيب؛ وهو ورق النّخل.
* العرض الآخير للقُرآن: هي المرة الاخيرة التي قرأ النبي فيها القرآن كاملاً على جبريل عليه السلام.
* عدول: هو الشخص الذي يُعرف باستقامته، بحيث لا يُعترض على قوله.
* الأحرف السّبعة: تعدّدت آراء أهل العلم في المراد من الأحرف السبعة؛ وذلك لأنه لم يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن صحابته رواية توضّح المقصود بها، ومما جاء من تفسيرات العلماء حول الأحرف السبعة؛ أن المراد منها التوسعة على القارئ لا الحصر، وقيل إنها سبع لغات على لغات العرب كلّها، وهي متفرّقة في القرآن، ومن الأمثلة ما قاله أبو عبيد: لغة قريش، ولغة هوازن، ولغة ثقيف، ولغة اليمن، ولغة هذيل، ولغة تميم، ولغة كنانة، وقيل إن المقصود بها "سبعةُ أوجه من المعاني المتّفقة بالألفاظ المختلفة"، وهذه المعاني متشابهة، ومثال ذلك قول: تعال، وأقبل، وهلمّ، فهي معاني لفظ واحد، وهو طلب الحضور، وعلى ذلك أكثر أهل العلم.