ما يصل للميت بعد موته
ما يصل الميت بعد موته من أعماله الصالحة
إنَّ ما يَصل للميت من أعمالٍ صالحةٍ قد تكون من عمله أو من عمل غيره، أمّا ما يَحصل عليه من أجرٍ عَمِله بنفسه، كقوله -تعالى-: (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى)، فهو له، ولا تناقض مع قول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- الذي أخبر فيه بوصول أجر الصدقة الجاريّة للميت، والعلم الذي يُنتفعُ به، والولد الصالح الذي يدعو له، فالصدقة من عمله، والعلم من سَعيه، والولد ثمرة تأديبه وتربيته. وفيما يأتي في المقال بيانٌ للأعمال التي تلحق الميت بعد موته، ويَصلهُ أجرُها وثوابُها.
العلم النافع
يُعدُّ العلم النافع الذي يتركُه الإنسان في حياته من الأعمال التي تلحقهُ بعد موته، لِقول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (إنَّ مِمَّا يلحقُ المؤمنَ من عملِهِ وحسناتِه بعدَ موتِه عِلمًا علَّمَه ونشرَه)، ويُضافُ إلى ذلك تعليم الناس الخير، ونشره بينهم، ودعوتهم إليه، وأخبر النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- أنَّ هداية الناس خيرٌ من حُمُر النَّعم؛ وهي الإِبِل النفيسة، وقد أثنى الله -تعالى- على المؤمن الذي يستغفر لمن سبقهُ من المؤمنين، لِقولهِ -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ)، ومما يدُلُّ على انتفاعه بذلك؛ ما جاءت به السُنّة من مشروعية الدُعاء في صلاة الجنازة .
ويدخُل في باب العلم النافع: تأليف الكُتب التي تنفع الناس في دُنياهُم وأُخراهم، أو إلقاءِ الدُروس والمُحاضرات، وكذلك الابتكارات التي تُسهّل على الناس حياتهم، إن كان يُقصد بذلك وجه الله -تعالى-. فالعلمُ يبقى ثوابه ما دام الناس ينتفعون به؛ كالعلم الذي تركه الإمام البُخاريّ، ومُسلم، وغيرهم من أئمة الحديث والفقه، كُلٌّ بحسب نفعه للناس، يقولُ النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (فواللهِ لأنْ يهْدي اللهُ بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من أنْ يكونَ لك حُمرِ النعمِ).
الصدقة الجارية
تُعدُّ الصدقات الجارية من الأعمال التي يَنتفعُ بها الإنسان بعد موته، وأمثلةُ الصدقة الجارية كثيرة ومُتنوّعة؛ كبناء المساجد التي تُقامُ بها الشعائرُ الدينيّة ودُروس العلم، أو بناء البيوت للغريب والمُسافر، ولمن لا بيتَ له ولا مأوى، أو حفر الآبار، أو زراعة الأشجار التي يستظلّ الناس بِظلّها، وينتفعون من ثِمارها، أو توريث مُصحفٍ للقراءة فيه، أو وقف المصاحف في أماكن العبادة ، لِقول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له).
ويشتركُ في الأجر كُلُّ من شارك أو ساهم بهذه الصدقة، فقد جاء عن النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- قوله: (سبعٌ يَجري للعبدِ أجرُهُنَّ، و هوَ في قَبرِه بعدَ موتِه: مَن علَّمَ علمًا، أو أجرَى نهرًا، أو حفَر بِئرًا، أوغرَسَ نخلًا، أو بنَى مسجِدًا، أو ورَّثَ مُصحفًا، أو ترَكَ ولدًا يستغفِرُ لهُ بعد موتِه). وقد وعدَ الله -تعالى- صاحبَ الصدقات بالأجرِ الكبير والعظيم في الدُنيا والآخرة، لِقوله -تعالى-: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّـهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّـهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
الولد الصالح
الولد الصالح: هو الولد الذي عَرَف ربَّه، وحقّ والديه ، فيدعو لهُما بالمغفرة والرحمة، أو يقوم بأعمالٍ تنفعهُما بعد موتهما؛ كالتصدُّق والحجِّ عنهُما، ويَهب ثواب ما عمل لهُما، فيَتَّبع المسلم ما علّمه والداهُ له من الأعمال الصالحة، حيثُ إنّهما سبباً في تعليمه وتأديبه على طاعة الله، ونهيه عن معصيته، لِقول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له)، والولد قد يكون ذكراً أو أُنثى، لأنّهما من كسبه، وهما امتدادٌ لوالديهما، وخصَّ الحديث الأبناء بالذّكر مع أنّ ثواب الدُعاء يصل لهم من غيرهم من الناس، لأنّهم الأقرب والأولى بوالديهما.
وقد بيّن النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- أنّ الأعمال الصالحة لا تتبع الإنسان بعد موته جميعها، وإنّما حدّدها في العديد من الأحاديث التي تمّ ذكرها خلال المقال؛ كالعلم، والولد الصالح، والصدقة بجميعِ أنواعها، والسُّنّة الحسنة، لِقول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (مَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ له مِثْلُ أَجْرِ مَن عَمِلَ بهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِن أُجُورِهِمْ شيءٌ، وَمَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عليه مِثْلُ وِزْرِ مَن عَمِلَ بهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِن أَوْزَارِهِمْ شيءٌ).
ما يصل الميت من أعمال غيره الصالحة
أجمعُ أهلُ العِلم على وصول أجر الدُعاء، والصدقة، والهدي للميت، لما ورد في الأحاديث السابقة، ومن الأعمال التي يَصل ثوابها للميت من أعمالِ غيره ما يأتي:
قراءة القران
تعدّدت آراء الفقهاء في وصول أجر قراءة القرآن للميّت؛ فذهب الحنفيّةُ والحنابلة إلى القول بجواز قراءة القُرآن للميت، ثُمّ إهداء ثوابها له، ويرى المُتقدّمون من المالكيّة إلى القول بكراهة قراءة القُرآن للميت، وعدم وصول ثوابها له، وأمّا المُتأخّرون فيرون عدم البأس في ذلك، ويرى الشافعيّة بعدم وصول ثواب القِراءة للميت، وقال بعضهم يصل، وقال كثيرٌ من أهل العلم بجواز قراءة القُرآن للميت وإهداء ثوابها له، ووصولها إليه، ودليل ذلك ما ثبت عن النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- بجواز الصدقة عن الميت، أو الصومِ أو الحجِ عنه.
الصدقة
ثبت في العديد من الأحاديث الشريفة وصول أجر الصدقة من الأحياء إلى الأموات، لما جاء عن النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (أنَّ رَجُلًا قالَ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وأُرَاهَا لو تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قالَ: نَعَمْ تَصَدَّقْ عَنْهَا)، ومعنى افتلتت - ماتت فجأة- من غير إنذارٍ لها، ولم توصي بشيء، فيُسنُ الصدقة عن الميت، وقد أجمع أهلُ العِلم على جواز التصدُّقِ عن الميت، ووصول ذلك له، والانتفاعِ بها.
الدعاء
دلّت الأحاديث الصحيحة على انتفاع الميت بالدُعاء ، ولكنّ الدُعاء من الأمور المُتّفقِ على وُصول ثوابها للميّت؛ ومن ذلك الاستغفار له، ومن الأدلّة على ذلك قول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (إذا صلَّيْتُم على الميِّتِ، فأخْلِصوا له الدُّعاءَ)، كما يُسنّ للمسلم الوقوف عند قبر الميت بعد دفنه، والدُعاءُ له، والاستغفار له، وسؤال الله -تعالى- له بالثبات، ونقل الإمام النوويّ الإجماع على أنَّ الدُعاء للميت ينفعهُ ويَصلُ إليه، كما اتفق العُلماء أيضاً على وُصول ثواب الاستغفار للميت، وذلك لِما ورد عن النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- من وُقوفه على قبر الميت بعد دفنه، وطلبه من الحاضرين الاستغفار له، والدُعاء له بالثبات عند سؤال الملكين له.
الحج والعمرة
إنّ للفقاء رأيين في حكم الحجّ والعمرة عن الميّت ووصول ثوابها للميّت، وبيان ذلك فيما يأتي:
- ذهب الجُمهور إلى جواز الحجّ أو العُمرةِ عن الميت، واستدلّوا بعدة أدلّة منها قول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِن خَثْعَمَ عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ، قالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ علَى عِبَادِهِ في الحَجِّ أدْرَكَتْ أبِي شيخًا كَبِيرًا لا يَسْتَطِيعُ أنْ يَسْتَوِيَ علَى الرَّاحِلَةِ فَهلْ يَقْضِي عنْه أنْ أحُجَّ عنْه؟ قالَ: نَعَمْ).
- يرى المالكيّة عدم جواز الحج أو العمرة عن الغير ، سواءً كان حياً أو ميتاً، معذوراً أو غير معذور، والأفضل الهدي أو التصدُّق عنه، أو الدُعاء له، واستدلّوا بقولهِ -تعالى- عن الحجِّ: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)؛ فلا يجبُ الحجّ على غير المُستطيع، كما أنّها من العبادات التي لا تجوز النيابةُ فيها عندهم.