ما هي ضوابط المصلحة والمفسدة في الشريعة الإسلامية
المصالح والمفاسد في الشريعة الإسلاميّة
إنّ المصلحة لغة هي ضدّ المفسدة، وفي الاصطلاح عرّف الغزالي المصلحة بأنّها المحافظة على مقاصد الشريعة الإسلامية التي جاءت لحفظها على الإنسان وهي الدين ، والعقل، والنفس، والمال، والنسل، فكلّ ما يتضمن هذه المقاصد ويحققها هو مصلحة، وكلّ ما يفوتها ويضيعها هو مفسدة، والدافع لهذه المفاسد هو مصلحة في حد ذاته، ومن الجدير بالذكر أنّ الشريعة الإسلاميّة بُنيت على قاعدة تحصيل المصالح وتكميلها، وتقليل المفاسد وتعطيلها، ذلك أنّ مقصد الشريعة هو تحقيق المصلحة للمكلف، وقال العز بن عبد السلام إنّ كلّ ما أمرت به الشريعة الإسلاميّة إنّما جاء لتحقيق مصلحة أو مصالح عدة، أو لدفع مفسدة أو مفاسد عدة، أو لتحقيق الأمرين معاً، وكذلك كلّ ما نهت عنه الشريعة الإسلاميّة إنّما كان لجلب مصلحة أو مصالح عدة، أو دفع مفسدة أو مفاسد عدة أو للأمرين معاً.
ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلاميّة
تعتبر المصلحة من أوسع الطرق التي يستغلها أهل الأهواء من أجل تحقيق رغباتهم بزعم تحقيق المصلحة، لذلك كان لا بد من وضع ضوابط لهذه المصلحة ألا وهي:
كليّة المصلحة
إنّ معنى ذلك ألا تكون تلك المصلحة لفئة من الناس بينما تضر أخرى، وقد مثل الإمام الغزالي على ذلك بقوم كانوا على سفينة وأرادوا أن يتخلصوا من رجل واحد منهم، وإلا غرق جميهم، فالمصلحة هنا لا تكون كلية إذا كان فيها هلاك عدد محصور.
يقينيّة المصلحة
يكون ذلك بمعنى أن يدرك المجتهد أو الناظر قطعية وجود تلك المصلحة دون أن يتوهم أو يظن وجودها، ثمّ يحكم باعتبار وجود هذه المصلحة بناء على الظن غير المعتبر في الشرع، وقد ذكر الإمام الغزالي هذا الشرط ومثل عليه فيما إذا تترس الكفار برجل مسلم في قلعة فلا يحل قتل هذا الرجل المسلم لعدم وجود الضرورة التي نعدل بها، حيث الظفر على الأعداء ليس قطعيا بهذا الفعل، بل هو ظني، أما إذا كان الظن راجحاً وناشئاً عن الاجتهاد فإنّه يكون بمنزلة اليقين المعتبر شرعاً إذا لم يتوفر القطع.
توافق المصالح مع مقاصد الشريعة
يجب أن تكون المصالح متوافقة مع مقاصد الشريعة من جنس مصالحها وليست بغريبة عنها، بمعنى أنّه إذا لم يكن هناك نص على المصالح في الشريعة، لا بد وأن تكون قائمة على تحقيق وحفظ مقاصدها الخمس، وهي الدين، والعقل، والنسل، والنفس والمال، وإنّ كلّ ما يفوت هذه الأصول أو بعضها يعتبر من المفاسد، كما تختلف درجة حفظ هذه المقاصد بحسب الأهمية وتندرج إلى ثلاث مراحل بحسب تقسيم العلماء وهي الضروريات، والحاجيات، والتحسينات.
عدم مخالفة المصلحة لما جاء في الكتاب والسُّنة
تعتبر الدلالة على ذلك عقلاً أنّ المصالح ما هي إلا جزئيات الأدلة التفصيلية في الكتاب والسنة التي تستند على مقاصد الشريعة الخمسة، وليست دليلاً مستقلاً في حد ذاتها، وبالتالي يستحيل أن تتعارض المصلحة مع مدلولها أو تخالفه لأنّ حجيّة هذه المصلحة قد جاءت من هذا المدلول، وبالتالي فلا اعتبار للمصلحة الموهومة التي لا تستند إلى نص، والتي تتعارض مع الكتاب والسنة النبوية مثل تحليل الربا باعتباره مصلحة اقتصادية، أو إباحة الزنا والخمور لأنّها تدر الأموال، وقيل إنّ تعارض مع الشريعة الإسلامية فلا يعتبر مصلحة وبالتالي لا تعتبر مخالفة المصلحة لما جاءت به الشريعة من الضوابط.
عدم تفويت المصلحة للأهم منها أو المساوية لها
إنّ هذا الضابط يكون عند تعارض المصالح حيث ينظر حينها في المصلحة الأولى والأهم، وإنّ معيار الأولوية كما ذكر الدكتور البوطي مرجعه إلى ثلاثة أمور أولها قيمة تلك المصالح الذاتية ودرجتها في سلم المقاصد، فالحاجيات أو التحسينات لا تقدم على الضروريات، فإذا تساوت تلك المصالح في سلم المقاصد نظر في شمولها، فالمصلحة العامة تقدم على الخاصة، وإذا تساوت تلك المصالح في الشمول نظر في المعيار الثالث وهو درجة التأكد من وقوع نتائج المصلحة، فتقدم الأكيدة على الظنية، وقيل إنّ هناك معايير أخرى ينظر فيها عند تعارض المصالح فالمصلحة الدائمة أولى من المصلحة المنقطعة، ومثال على ذلك أنّ أحب العبادات إلى الله أدومها وإن قلت، كما أنّ المصلحة المتعدية أولى من المصلحة القاصرة، ومثال على ذلك العلم مصلحته متعدية بينما العبادة مصلحتها قاصرة، ثمّ أخيراً معيار طول نفع المصلحة حيث تقدم المصلحة الأطول نفعاً على المصلحة المحدودة، ومثال على المنفعة طويلة النفع الصدقة الجارية.
قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد
يقدم دفع المفاسد على جلب المصالح إذا حصل تعارض بينهما وكانا في رتبة ومنزلة واحدة، والقاعدة الشرعية في ذلك أنّ دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، وقال الإمام السيوطي إذا تعارضت المفاسد والمصالح قدم دفع المفاسد غالباً، ذلك أنّ الشريعة الإسلامية عنيت بما نهي عنه أكثر من عنايتها بما أمر به، ومن أدلة مشروعية ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْم)، ودلالة ذلك أنّ المسلمين قد نهوا عن سب آلهة المشركين على الرغم من وجود المصلحة في ذلك خوفاً من مفسدة أكبر وهي سبّ المشركين لله تعالى، وفي السنة النبوية المطهرة: (إياكم والجلوسَ بالطرقاتِ. فقالوا: يا رسولَ اللهِ، ما لنا من مجالسِنا بدٌّ نتحدثُ فيها، فقال: فإذا أبيتم إلا المجلسَ، فأعطوا الطريقَ حقَّه. قالوا: وما حقُّ الطريقِ يا رسولَ اللهِ؟ قال: غضُّ البصرِ، وكفُّ الأذى، وردُّ السلامِ، والأمرُ بالمعروفِ ، والنهيُ عن المنكرِ)، ووجه الدلالة أنّ نهي النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين عن الجلوس في الطرقات لأنّ مفاسده أكثر من مصالحه، فإذا كان لا بد منه فيجب الالتزام بما أمر به النبي الكريم من آداب.