ما هي أركان الحج وواجباته
الفرق بين أركان الحجّ وواجباته
تتفرّع مناسك الحجّ إلى: أركان، وواجبات، وسُنَن، ومُستحَبّات؛ أمّا الأركان فلا يجوز تجاوزها أبداً، ولا يقوم شيءٌ مقامها، بينما إذا تُرك واجب من واجبات الحجّ بسبب عذرٍ ما؛ فيصحّ الحجّ على أن يُجبَر تَركها بالفِدية، ولا يترتّب شيءٌ على الحاجّ بسبب ترك السُّنَن، و إن أتى بها فإنّ حجّه يكون تاماً ، وأجره كاملاً، وفيها اقتداء بالنبيّ -عليه الصلاة والسلام-.
أركان الحجّ
يُعرَّف الرُّكن لغةً بأنّه: ما يُتقَوّى به الشيء، ويستند ويعتمد عليه، أمّا شرعاً فهو: ما لا تقوم العبادة إلّا به، ولا تنعقد إلا بتحقُّقه، وقد اتّفق جمهور العلماء من الشافعيّة، والمالكيّة، والحنابلة على أنّ للحجّ أربعة أركانٍ، وهي: الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الزيارة، والسَّعي بين الصفا والمروة، فهذه هي أركان الحجّ الأساسية، واقتصر الحنفيّة في بيانهم لأركان الحجّ على الوقوف بعرفة، والطواف، فهي أركان الحج التي يبطل بدونها.
الإحرام
يُراد بالإحرام: قَصْد النيّة الخالصة لله -تعالى-؛ لأداء فريضة الحجّ، من المواقيت المكانيّة التي حدّدها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، قال -تعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ)، وثبت عن عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- عن النبيّ- عليه الصلاة والسلام- قوله: (إنَّما الأعْمالُ بالنِّيّاتِ)،
والنيّة تلزم في أيّ عملٍ؛ ليكون خالصاً لله -تعالى-، وتجدر الإشارة إلى أنّ الإحرام رُكنٌ من أركان الحجّ عند الشافعيّة، والمالكيّة، والحنابلة، وشرط صحّةٍ عند الحنفيّة، وإحرام الحجّ ثلاثة أنواعٍ، وهي كما يأتي:
- الإفراد: وهو أن ينويَ المُحرم أداء الحجّ فقط، فيُؤدّي أعماله فقط، دون الإحرام بالعُمرة، أو أداء أعمالها.
- القِران: ويُراد به الإحرام بالحجّ والعُمرة معاً، فيؤدّي أعمالهما معاً في نُسكٍ واحدٍ؛ فقد بيّنه الجمهور من الشافعيّة، والمالكيّة، والحنابلة بتداخل أعمال الحجّ والعمرة؛ بأداء طوافٍ واحدٍ، وسعيٍ واحدٍ، أمّا الحنفيّة فقالوا بأنّ القارن يُؤدّي الطواف مرّتَين، والسَّعي مرّتَين.
- التمتُّع: ويكون بأداء العُمرة في أشهر الحجّ، ويتحلّل منها، ويبقى في مكّة، ثمّ يُحرم بالحجّ، ويُؤدّي أعماله في عامٍ واحدٍ.
وتكمُن الحكمة من مشروعيّة الإحرام بإظهار الخضوع، والتواضع لله -تعالى-، والابتعاد عن مظاهر التَّرَف، والتزيُّن، وتطهير النفس من الغرور، وتكون نيّة الحجّ عند الإحرام بحسب نوع الحجّ الذي يُحدّده الحاجّ؛ إن كان قِراناً، أو إفراداً، أو تمتُّعاً، وإن كان سيُؤدّي الحجّ عن نفسه، أو عن غيره.
الوقوف بعرفة
أجمع العلماء على أنّ الوقوف بعرفة هو الرُّكن الأعظم والأساسيّ للحجّ، ولا يتمّ الحجّ إلّا به، ويستطيع الحاجُّ الوقوف بأيّ مكانٍ من جبل عرفة إلّا في وادي عُرَنَة؛ وهو من أودية مكّة المُكرَّمة،وقد أجمع العلماء على أنّ آخر وقت الوقوف بعرفة يكون عند طلوع الفجر الصادق لليوم العاشر من ذي الحِجّة.
وأمّا الوقت الذي يبدأ به فقد ذهب جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية وقول عن الإمام أحمد أنّ الوقوف بعرفة يبدأ من زوال شمس يوم التاسع من ذي الحجّة، واستدلوا بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين من بعده، وقد ورد قول عن الإمام مالك أنّ الوقوف بعرفة يبدأ من الليل، كما ذهب الحنابلة إلى أنّ وقت الوقوف يبدأ من فجر يوم عرفة.
ويُسَنّ عند الوقوف بعرفة عدّة أمورٍ، سنذكَر منها ما يأتي:
- الاغتسال قبل الوقوف بعرفة، والطهارة من أيّ حدثٍ أو خبثٍ؛ لإتمام العبادة على أتمّ وجهٍ.
- إفطار يوم عرفة للحاجّ؛ ليتقوّى على أداء العبادة.
- التوجُّه إلى عرفة عند طلوع الشمس، والنزول بمسجد نَمِرة، والصلاة فيه.
- الخُطبة بالحُجّاج؛ لبيان أحكام الحَجّ لهم؛ من مشروعاتٍ، ومُبطلاتٍ، وغير ذلك.
- جمع التقديم والقَصْر بين صلاتَي الظهر والعصر للحاجّ.
- استقبال القبلة، والابتعاد عن كلّ ما يُشغل الحاجّ من أمور الدُّنيا، والإقبال على الله -تعالى- بكلّ خشوعٍ، وتذلُّلٍ، والتجاءٍ، وطلب الرضا والمغفرة منه.
- الزيادة في الأدعية، والذِّكر، والعبادة، والمُبالغة في ذلك.
طواف الإفاضة
يُعَدّ طواف الإفاضة الرُّكن الثالث من أركان الحجّ، ويُقال له: طواف الزيارة، أو طواف الرُّكن، ويُؤدّى سبعة أشواط كاملة عند الشافعيّة، والمالكيّة، والحنابلة، أمّا الحنفيّة، فقد قالوا بأنّ الرُّكن في الطواف أربعة أشواطٍ، أمّا وقت طواف الإفاضة فقد بحثه أئمة الفقه، وخلاصة ما ذهبوا إليه فيما يأتي:
- الحنفيّة: قالوا إنّ طواف الإفاضة يكون بعد الوقوف بعرفة، ولا يصحّ الطواف دون الوقوف بعرفة.
- المالكيّة: قالوا إنّه يمكن للحاجّ أن يُؤدّي طواف الإفاضة منذ اليوم العاشر من ذي الحِجّة إلى آخر الشهر، وتترتّب الفِدية على مَن لم يُؤدِّه.
- الشافعيّة: قالوا إنّ طواف الإفاضة يبدأ من بعد منتصف ليلة النَّحر، والأفضل أن يُؤدّى يوم النَّحر، ولا حَدّ لآخر وقته، مع الإشارة إلى أنّ الطواف بمثابة التحلُّل من الإحرام؛ فلا تحلّ النساء إلّا بعد أدائه.
- الحنابلة: قالوا إنّ طواف الإفاضة لا يكون قبل الوقوف بعرفة أبداً، ويبدأ من منتصف ليلة النَّحر، ولا حَدّ لآخره.
السَّعي بين الصفا والمروة
إنّ السَّعي رُكنٌ من أركان الحَجّ؛ بدليل قَوْل الله -تعالى-: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّـهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّـهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ).
وثبتت مشروعيّة السَّعي بين الصفا والمروة بما أخرجه الإمام البخاريّ عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: (ما أتَمَّ اللَّهُ حَجَّ امْرِئٍ، ولَا عُمْرَتَهُ لَمْ يَطُفْ بيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ)،ولا يصحّ الحجّ ولا يتمّ إلّا بالسَّعي بين الصفا والمروة، ويبدأ الحاجّ السَّعي من الصفا وصولاً إلى المروة، فيُتمّ بذلك شوطاً، ومن ثمّ يسعى من المروة إلى الصفا، فيتمّ بذلك شوطاً ثانياً، ويبقى على حاله إلى أن يُتمّ سبعة أشواط كاملة.
وبدليل ما أخرجه الإمام مسلم في بيان كيفيّة السَّعي، عن جابر بن عبدالله -رضي الله عنه-: (ثُمَّ خَرَجَ مِنَ البَابِ إلى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: {إنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ} أَبْدَأُ بما بَدَأَ اللَّهُ به فَبَدَأَ بالصَّفَا، فَرَقِيَ عليه، حتَّى رَأَى البَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ...).
(وَقالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له، له المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهو علَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ، لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ ثُمَّ دَعَا بيْنَ ذلكَ، قالَ: مِثْلَ هذا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إلى المَرْوَةِ، حتَّى إذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ في بَطْنِ الوَادِي سَعَى، حتَّى إذَا صَعِدَتَا مَشَى، حتَّى أَتَى المَرْوَةَ، فَفَعَلَ علَى المَرْوَةِ كما فَعَلَ علَى الصَّفَا).
الحلق أو التقصير
انفرد الشافعية في اعتبار الحلق أو التّقصير ركناَ من أركان الحجّ، فيما عدّه جمهور الفقهاء واجب من واجبات الحج، ورغم هذا التّباين إلا أنّ أهل العلم أجمعوا على أنّ الحلق والتّقصير نُسُكٌ من مناسك الحجّ؛ خلافاً لما ذهب إليه بعض الفقهاء من أنّهما عمل يتحرّر به الحاج من محظور، ولا شيء في تركه،
ويكون الحَلْق والتقصير لشَعر الرأس على وجه الخصوص، واستحبّ بعض العلماء، كالإمامين: مالك، وأحمد، حَلْقَ الشَّعْر الذي تُسَنّ إزالته وتخفيفه، أو تقصيره، كشَعْر الشارب، قال الله -تعالى-: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّـهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ)،
وأخرج الإمام البخاريّ عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: (حَلَقَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حَجَّتِهِ)، وتجدر الإشارة إلى أنّ الحَلق للرجال فقط؛ فليس على المرأة حَلْق، بل تُقصِّر قَدْر أُنْملة الإصبع باتّفاق العلماء، وقد تعددت آراء العلماء في مقدار الحَلْق أو التقصير للرجال، وذهبوا في المسألة إلى أقوال عدّة، بيانها فيما يأتي:
- القول الأول: قال الإمام أبو حنيفة بحَلْق أو تقصير رُبع الرأس فقط، وقال أبو يوسف من الحنفيّة بحَلْق أو تقصير نصف الرأس.
- القول الثاني: قال كلٌّ من الإمامَين: مالك، وأحمد، بأنّ الحَلْق والتقصير يكون لجميع الرأس؛ وقد استدلّوا بأنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- حَلق جميع رأسه.
- القول الثالث: قال الشافعيّة بأنّ الحَلْق أو التقصير يتحقّق بثلاث شعراتٍ.
ويُستحبّ الحلق والتقصير، ويُسَنّ عند جمهور العلماء من الشافعيّة، والمالكيّة، والحنابلة أيّام النَّحر، وفي الحَرم، على أنّ الحلق والتقصير لا يختصّ بمكانٍ أو زمانٍ مُحدّدَين، وذهب الحنفيّة إلى القول باختصاص الحَلْق والتقصير عندهم في الحَرم بأيّام النَّحر فقط، ويترتّب على الحاجّ الفِدية بمُخالفة ذلك، وللحَلق عدّة آدابٍ، ويُذكَر منها ما يأتي:
- يُسَنّ أن يحَلق للحاجّ غيرُه، ويُباشر الحَلْق من الجهة اليُمنى من الرأس؛ لِما ورد في صحيح مسلم عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: (أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أَتَى مِنًى، فأتَى الجَمْرَةَ فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بمِنًى وَنَحَرَ، ثُمَّ قالَ لِلْحَلَّاقِ: خُذْ، وَأَشَارَ إلى جَانِبِهِ الأيْمَنِ، ثُمَّ الأيْسَرِ، ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيهِ النَّاسَ).
- يُسَنّ الأخذ من الشارب والأظافر بعد الحَلْق؛ لِما ورد: (أنَّ عَبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ كان إذا حَلَقَ رأْسَه في حَجٍّ أو عُمرةٍ، أخَذَ مِن لِحيَتِه وشاربَيِه).
الترتيب بين مُعظم الأركان
اشترط علماء الحنفيّة، والمالكيّة، والحنابلة الترتيبَ بين أركان الحجّ؛ لتحقيق كمال صحّتها، أمّا الشافعيّة فاعتبروا الترتيب رُكن من أركان الحجّ، وترتيب الأركان عند جمهور العلماء يبدأ بالإحرام، ثمّ الوقوف بعرفة، ثمّ الطواف، ثمّ السَّعي، دون اشتراط تقديم الطواف على الحَلْق والتقصير.
واجبات الحجّ
يُعرَّف الواجب لغةً بأنّه: الأمر المُلزم فيه، أو الأمر الثابت، أمّا الواجب شرعاً، فهو: الأمر الذي يُثاب فاعله، ويَأثَم تاركه، ويدلّ عليه الأمر به؛ إذ إنّ الأمر يقتضي الوجوب، ويقصد بواجبات الحج تحديداً: الأعمال التي يجب على الحاج القيام بها، ولكن لا يفسد حجه بتركها، ويلزمه ذبح شاة جبراً للنّقص الذي وقع منه.
المَبيت بمزدلفة
قال الله -تعالى-: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّـهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ)، و يُراد بالمَشعر الحرام مُزدلفة ، والمَبيت بها بعد الانصراف من عرفاتٍ واجبٌ من واجبات الحجّ باتّفاق أهل العلم، ويجب الدم بتركه، ووجوب الدم خاص فيمن تركه بلا عذر.
وأمّا من تركه لعذرٍ معتبر؛ فلا شيء عليه، ويتحقّق المبيت عند الشافعية والحنابلة بالحضور في مزدلفة في ساعة من النصف الثاني من ليلة النحر، ولو خرج من مزدلفة بعد منتصف الليل لعذر أو لغير عذر أجزأه، ولا دم عليه، وذهب المالكية إلى أنّ المُكث في مزدلفة إنْ قلّ عن قدر حطّ الرّحال بلا عذر وجب عليه دم.
والمبيت عند الحنفية يتحقّق بالوقوف في مزدلفة، أمّا البيتوتة فسنّة مؤكّدة إلى صلاة الفجر، وقد ثبت أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- كان يمشي إلى مُزدلفة بسكينةٍ ووقارٍ.
وقد صحّ عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: (أنَّهُ دَفَعَ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ عَرَفَةَ، فَسَمِعَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ورَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا، وضَرْبًا وصَوْتًا لِلْإِبِلِ، فأشَارَ بسَوْطِهِ إليهِم، وقالَ: أيُّها النَّاسُ علَيْكُم بالسَّكِينَةِ فإنَّ البِرَّ ليسَ بالإِيضَاعِ)، ويُؤدّي الحاجّ صلاتَي المغرب والعشاء جَمعاً وقَصراً فَور وصوله إلى مُزدلفة.
رَمْي جمرة العقبة
يرمي الحاجّ جمرة العقبة يوم النَّحر بسبع حَصَياتٍ ؛ فيقف الحاجّ مُستقبِلاً الجَمرة، جاعلاً الكعبة إلى يساره، فيرمي حصاةً حصاةً، ويُكبّر عند كلّ واحدةٍ، ويقطع التلبية بمُجرَّد الرَّمْي.
وعلى الرغم من اتّفاق العلماء على أنّ وقت الفضيلة يكون بعد طلوع الشمس؛ اقتداءً بما ورد من فِعل النبيّ -عليه الصلاة والسلام-؛ إذ ثبت أنّ جابر بن عبدالله قال: (رَمَى رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ الجَمْرَةَ يَومَ النَّحْرِ ضُحًى)، إلا أنّ العلماء تعدّدت آرائهم في أوّل وقت رَمْي جمرة العقبة، وذهبوا في ذلك إلى قولَين، بيانَهما فيما يأتي:
- القول الأوّل
قال الإمامان؛ مالك، وأبو حنيفة إنّ وقت رَمْي جمرة العقبة يبدأ من بعد طلوع الشمس؛ وقد استدلّوا بحديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: (لا ترمُوا الجمرةَ حتى تطلعَ الشَّمسُ).
- القول الثاني
قال الشافعيّ وأحمد إنّ رَمْي جمرة العقبة يبدأ بعد منتصف ليلة النَّحر؛ استدلالاً بما ورد عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: (أرسلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بأمِّ سلمةَ ليلةَ النَّحرِ فرمتِ الجمرةَ قبلَ الفجرِ).
ويمتدّ وقت رَمْي جمرة العقبة إلى غروب شمس يوم العاشر من ذي الحِجّة؛ أيّ يوم النَّحر، أمّا الرَّمْي بعد غروب الشمس، فيجوز عند الشافعيّة والمالكيّة؛ استدلالاً بما ورد عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما-: (كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُسْأَلُ يَومَ النَّحْرِ بمِنًى، فيَقولُ: لا حَرَجَ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أنْ أذْبَحَ، قالَ: اذْبَحْ ولَا حَرَجَ وقالَ: رَمَيْتُ بعدما أمْسَيْتُ، فَقالَ: لا حَرَجَ).
رَمْي الجمرات الثلاث
يرمي الحاجّ أيّام التشريق الجمرات الثلاث؛ الصُّغرى، ثمّ الوُسطى، ثمّ العقبة، وقد ثبتت مشروعيّة الرَّمْي بما ورد عن جابر بن عبدالله: (رَأَيْتُ النبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- يَرْمِي علَى رَاحِلَتِهِ يَومَ النَّحْرِ، ويقولُ: لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فإنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتي هذِه)، ويكون الرَّمْي بعد زوال الشمس؛ استدلالاً بما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: (كان رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَرْمي الجِمَارَ إذا زالتِ الشمسُ).
ويرمي الحاجّ كلّ جمرةٍ بسبع حَصَياتٍ مع التكبير، واستقبال القبلة، والدعاء، وذلك عند الصُّغرى والوُسطى فقط، دون العقبة، ومن عَجز ولم يستطع الرَّمْي؛ خوفاً على النفس، كالكبير، والمريض، والصغير، والمرأة الحامل، فإنّه يُباح له أن يُوكِّل شخصاً آخرَ بالرَّمْي عنه؛ قال -تعالى-: (فَاتَّقُوا اللَّـهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)؛ إذ إنّ الرَّمْي لا يُقضى؛ ولذلك جاز التوكيل فيه.
الإحرام من الميقات
عيّن النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أماكن مُحدّدة؛ لإحرام الحاجّ منها، وتُسمّى بالمواقيت المكانيّة، وعددها خمسةٌ، ومن أحرم بعد تجاوز الميقات المُحدَّد، ولم يرجع إليه؛ فيجب عليه الدم، كما ذهب إلى ذلك الشافعيّة، والحنفيّة، والمالكيّة، والحنابلة، والمواقيت التي حدَّدها النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- هي:
- ذو الحُليفة: أو ما يُسمّى بأبيار علي؛ وهو ميقات أهل المدينة ومَن فيها، ويبعد عن مكّة المُكرَّمة أربعمئة وخمسين كيلومتراً.
- الجُحفة: وهو ميقات أهل الشام، ويبعد عن مكّة مئة وسبعة وثمانين كيلومتراً إلى الشمال الغربيّ منها.
- قرن المنازل: وهو ميقات أهل نَجد، ويبعد عن مكّة أربعة وتسعين كيلومتراً.
- يَلمْلم: وهو ميقات أهل اليمن، ويبعد عن مكّة أربعة وخمسين كيلومتراً.
- ذات عِرْق: وهو ميقات أهل العراق، ويبعُد عن مكّة أربعة وتسعين كيلومتراً.
المَبيت بمِنى
اتّفق العلماء على أنّه يُسَنّ للحاجّ المَبيت في مِنى ليلة الثامن من ذي الحِجّة قبل التوجُّه إلى عرفاتٍ، إلّا أنّه تعددت آرائهم في حُكم المَبيت بمِنى ليالي التشريق، وذهبوا في ذلك إلى قولَين، بيانهما آتياً:
- القول الأوّل
قال جمهور أهل العلم من الشافعيّة، والمالكيّة، والحنابلة بوجوب المَبيت في مِنى؛ استدلالاً بقَوْل الله -تعالى-: (وَاذْكُرُوا اللَّـهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)، فالمُتعجِّل يكون مُقيماً في مِنى قبل تعجُّله، وقَوْله -صلّى الله عليه وسلّم-: (خذوا عنِّي مناسِكَكم)، فالنبيّ -عليه الصلاة والسلام- بات في مِنى نُسكاً.
واستدلّوا أيضاً بأنّ النبيّ رخّص للعبّاس بالمَبيت في مكّة ليالي التشريق، ممّا يعني أنّ الأمر واجبٌ، ورُخِّص للعبّاس فقط، وقالوا إنّ الواجب في المَبيت أكثر الليل؛ قياساً على المَبيت بمزدلفة؛ إذ إنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- رخَّص لأصحاب الأعذار في التوجُّه إلى مِنى بعد منتصف الليل، ممّا يعني أنّهم قَضْوا معظم الليل في مُزدلفة.
- القول الثاني
قال الحنفيّة بأنّ المَبيت في مِنى سُنّةً؛ واستدلّوا بأنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- رخَّص لأهل السقاية والرَّعي في عدم المَبيت، ولو كان واجباً لِما رُخِّص فيه إلّا لضرورةٍ.
طواف القدوم
يُعَدّ طواف القدوم بمثابة تحيّة البيت الحرام؛ ولذلك يُستحَبّ أداؤه فَور الوصول إلى مكّة، ويمتدّ وقته إلى حين الوقوف بعرفة؛ لأنّ الحاجّ مُطالَبٌ برُكن طواف الزيارة بعد الوقوف بعرفة، وتُطلَق على طواف القدوم عدّة أسماء أخرى، منها: طواف التحيّة، وطواف الورود، وطواف الوارد، وطواف اللقاء.
وقال جمهور العلماء من الحنفيّة، والشافعيّة، والحنابلة بأنّ طواف القدوم سُنّةً للحاجّ الذي دخل مكّة قبل الوقوف بعرفة، أمّا الحاجّ من أهل مكّة فلا يُسَنّ له طواف القدوم، أمّا المالكيّة فقالوا بوجوب طواف القدوم للحاجّ على من أحرم من الحِلّ؛ سواءً كان من أهل مكّة، أو من غير أهلها، وتجب الفِدية على من صعد على عرفة وتَرك طواف القدوم إذا كان في الوقت متّسعاً للطّواف.
طواف الوداع
يُعَدّ طواف الوداع آخر ما يؤدّيه الحاجّ بعد إتمامه مناسكَ الحجّ، ويبدأ وقته بعد آخر نُسكٍ يُؤدّيه الحاجّ، ويُؤخّره إلى أن يغادر مكّة إن أراد الإقامة في مكّة يوماً أو يومَين، وقد ثبتت مشروعيّته بعدّة أحاديث، منها: قوْل النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (لا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حتَّى يَكونَ آخِرُ عَهْدِهِ بالبَيْتِ).
وما ورد عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: (أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- صَلَّى الظُّهْرَ، والعَصْرَ، والمَغْرِبَ، والعِشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بالمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إلى البَيْتِ، فَطَافَ بهِ)، ولا طواف وداع لأهل مكّة وساكنيها؛ لأنّ الوداع يكون بمغادرة مكّة، فإن أرادوا المغادرة طافوا.
الهامش *زوال الشمس: مَيلها عن منتصف السماء، بحيث يصبح الظلّ طويلاً بعد تناهي صِغره.[66]