ما معنى لا تشد الرحال
المسجد في الإسلام
أولَى الإسلامُ المَسجد عِنايةً خاصّةً، وأعطاه مَكانةً فَريدةً في المُجتمعات الإسلاميّة، كيف لا والمسجد يُعدّ النواة الأولى في تأسيس الدولة الإسلامية، وهو مَكان انطِلاقتِها الأول، فإنّ أوّل ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن وصل إلى المدينة بناء المسجد، ولمّا تمَّ ذلك فعلاً أصبح المسجد مكان اجتماع رسول الله بالصحابة، غير أنّه مكان العبادة الأول.
كان النبيُّ إذا ما أراد جمع المسلمين وإعلامهم بأمرٍ يخصّ المجتمع المسلم أمر بلال أن يدعو المُسلمين عبر مئذنة المسجد منادياً (الصلاة جامعة) فيجتمع المُسلمون ويتشاورون فيما يريده النبي، أو أنه يعلمه بأمر الله ووحيه، كما أنّ المسجد في ذلك الوقت كان مَكاناً لانطلاق الجيوش الإسلاميّة وتحريرها، وهو المدرسة التي فيها يتمّ تعليم أحكام الإسلام وتعاليمه، وفيه أيضاً تُعقد الحوارات والندوات والاجتماعات.
معنى المسجد
المسجِد: هو ذلك الموضع الذي يُتَّخذ للسجود فيه لله والتوجه إليه، وهو مَقيسٌ على المجلِس؛ المكان الذي يُجلس فيه، والمنزِل: المكان الذي يُنزل فيه، وجمع هذه منازل ومجالِس، وكذلك الأمر في المسجد فيُقال: مسجِد ومساجِد؛ فالمسجد هو مكان العبادة الذي يُعبد الله فيه بالسجود له، وإن للمسجد وظائف ثانوية غير العبادة التي هي الوظيفة الأولى له: فهو المدرسة، وهو المكان الثقافي الذي يلتقي فيه الأدباء، وهو المكان العامّ الذي يجتمع فيه الرّاعي بالرعيّة، وهو مجلس القضاء الذي فيه يجري التّقاضي والتّخاصم، ومنه تنطلق الجيوش لفتح ديار الإسلام وتحريرها من أعداء الأمة، وهو مكان تكريم الوفود من كبار زوّار الدّولة.
معنى حديث لا تُشد الرحال
أُخذت هذه الجملة من حديثٍ نبويٍ شريف، يذكر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - متى يجوز للمسلم أن ينتقل من موضعٍ لآخر في طلب مسجدٍ عن آخر، وفيما يلي بيان نصِّ الحديث ومعناه، وآراء العلماء وأقوالهم في أبعاد هذه الجملة.
نص حديث لا تُشدُّ الرِّحال ومعناه
في الحديث الذي يرويه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجدِ الحَرامِ، ومسجدِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومسجدِ الأقصى)، فقد وجَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه من خلال هذا الحديث إلى عدم جواز الانتقال من مكانٍ لآخر بهدفِ العبادة، وقد أعطى النبي في ذلك الأفضليّة لثلاثة مساجد على وجه الخصوص هي مسجده الشريف في الحرم النبوي، والمسجد الحرام في مكة المكرمة، والمسجد الأقصى في فلسطين.
أقوال الفقهاء في حديث لا تُشدُّ الرِّحال
اختلَفَ العُلماء في حكم شدِّ الرِّحال إلى غير المساجد المُشار إليها في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - بقصد التعبُّد، كالذهاب إلى أحد المساجد بهدف زيارة أحد الصالحين حيّاً كان أو ميتاً، أو بقصد التبرك بالمكان والصلاة فيه، وبيان ما ذَهب إليه العلماء في ذلك من خلال الآتي:
- ذهب الشيخ الجويني إلى أنّه يحرُم شدُّ الرحال إلى غير هذه المساجد عملاً بظاهر الحديث، وإلى ذلك أيضاً ذهب القاضي حسين، وبه قال القاضي عياض وجماعةٌ غيرهم، ودليلهم بذلك حديث لا تُشد الرحال إلا لثلاثة مساجد.
- يرى إمام الحرمين وغيره من علماء الشافعية أنه لا يحرم زيارة غير هذه المساجد بقصد العِبادة أو التبرُّك، وقد استدلّوا على ذلك بالآتي:
- إنّ المُراد بالحديث هو بيان أفضليّة شدِّ الرحال إلى هذه المساجد الثلاثة، وإنّ زِيارة غيرها جائزٌ لكن زيارتها أفضل وأولى لما لها من فضيلةٍ وزيادة تحصيل الأجر.
- إنّ النهي الوارد في الحديث إنما المُراد به من نذر على نفسه الصلاة في أحد المساجد دون غيره وغير المساجد الثلاثة فلا ينبغي عليه الوفاء بنذره.
- إنّ المراد من الحديث هو أنه لا تُشدُّ الرحال إلى مسجدٍ بقصد الصلاة فيه غير هذه المساجد الثلاثة، أمّا إن كان القصد من زيارة غير هذه المساجد الثلاثة غير قصد الصلاة؛ كأن يقصد زيارة أحد الصالحين أو أحد أقاربه، أو زيارة صديقٍ له، أو طلب علمٍ أو تجارة، أو بقصد التنزُّه فإن الغاية من تلك الزيارة لا تدخل في النهي الوارد في الحديث.
- إنّ المراد بذلك هو قصد تلك المساجد بالاعتكاف، وأنّ الاعتكاف فيها خيرٌ من الاعتكاف في غيرها.
حقوق المسجد في الإسلام
يَرتبط المسجد بأهمِّ شَعيرةٍ عند المسلمين التي هي الصّلاة، كما أنّ له من الأهميّةِ ما يَجعلُه يَحتلُّ مرتبة الصدارة في الدولة الإسلامية؛ حيث يَرتبطُ المسلمون في المسجد ارتباطاً مقطوع النظير؛ إذ عليه تقوم جلُّ أمورهم الحياتية والأخروية، وإن للمسجد مجموعةً من الحقوق التي ينبغي على المسلمين أداؤها تجاهه بأتمِّ وجه، ومن تلك الحقوق:
- منع غير المُسلمين عن الدخول إلى المسجد الحرام على وجه التحديد:' فقد كان المؤمنون في بداية عهد الدولة الإسلامية يحجّون مع المشركين إلى بيت الله في الوقت ذاته، وقد صدر الأمر الإلهيّ في تلك الفترة تحديداً بضرورة عدم منع غير المسلمين من دخول المسجد الحرام، ثم بعد ذلك جاء الأمر الإلهي بمنع المشركين صراحةً من دخول المسجد الحرام بصيغة الجزم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، فقد جاء في الآية سالفة الذكر ضرورة منع المشركين من دخول المسجد الحرام أو حتى الاقتراب منه، والغاية من ذلك صونُ المسجد الحرام من خبث المشركين، وحرصاً على المُسلمين من مُخطّطاتهم التي تهدف إلى إلحاق الأذى بالمسلمين.
- تعيين إمام راتب: ينبغي على الوالي أو الحاكم أن يقوم بتعيين إمامٍ لكل مسجدٍ ، بحيث يتولّى ذلك الإمام شؤونَ مسجده من حيث إمامة الناس فيه وتعليمهم أمور دينهم، وأمرهم بالمعروف ونَهيهم عن المنكر.
- إنّ تعيين إمامٍ راتب من أبرز واجبات الحاكم تجاه مساجد الدولة جميعها؛ لما لذلك من أثرٍ في توحيد صفِّ أبناء الدولة الإسلامية، وحفظ مكانة وهيبة الحاكم المُسلم بين رعيّته، كما أنّ وجود إمامٍ مثقفٍ قادرٍ على قيادة مسجده وحيه يمنع إثارة الفتن في الدولة المسلمة ويدفع الشّبهات عن الإسلام، لذلك يجب على الحاكم أن يُحسن اختيار الأئمة بحيث يكونون أئمّةً ذوي قدرةٍ علميةٍ عاليةٍ وتأهيل ديني وسياسي عالٍ، وعليهم أن يكونوا على قدرة عاليةٍ لمجاراة الأحداث التي تمرُّ بها الدولة الإسلامية، بحيث يُمكن لهم التعامل اللبق في مسجدهم وفق ما تقتضيه الشّريعة المُحمَّديّة.
- مراقبة المساجد ومتابعة أمورها: يَجب على الحاكم أن يكلّف مَن يثق به لمُتابعة شؤون المساجد وإدارتها، وتأمين ما يلزم لذلك؛ لما للمَسجد من مكانةٍ بالغة الأهميّة في الدّولة الإسلاميّة، بشرط ألّا يكون القصد من المتابعة تقييد عمل الأئمّة، وتضييق صلاحيّاتهم، وكبت حريّاتهم إن كانت تَتوافق مع قواعد الشّريعة وما بُني عليه المسجد .