ما معنى البرزخ
أول مشهدٍ بعد الموت
يتساءل الكثيرون من أهل الملّة عن الحقيقة الشرعية الغيبية التي تُخبر عن سؤال الإنسان بعد موته عن صدق إيمانه بواسطة ملكين موكّلين من الله تعالى، حيث جاءت كثيرٌ من الروايات الصحيحة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- تُخبر بذلك، ومن هذه الرّوايات ما رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (إنَّ العبدَ إذا وُضِعَ في قبرِهِ وتولَّى عنهُ أصحابُهُ، إنَّهُ ليسمَعُ قرعَ نعالِهِم، فيَأتيه ملَكانِ فيُقْعِدانِهِ، فيقولانِ لهُ ما كنتَ تقولُ في هذا الرَّجلِ محمَّدٍ رسولِ اللَّهِ، فأمَّا المؤمنُ، فيقولُ: أشهَدُ أنَّهُ عبدُ اللَّهِ ورسولُهُ، فيقول لَهُ: انظُر إلى مقعدِكَ منَ النَّارِ أبدلَكَ اللَّهُ بهِ مقعداً منَ الجنَّةِ، فيراهُما جميعاً)، ومذهب أهل السنة والجماعة أنّ سؤال الملكين حقٌ وصدقٌ، وأنّ الميت تردّ إليه روحه فيُسأل على أي حالٍ كان موته، سواءً قُبر أم لم يُقبر، بل قالوا: لو تمزّقت أعضاؤه، أو أكلته السّباع أو غرق فمات في البحر فأكلته الحيتان، أو مات حرقاً أو سحقاً حتى صار رماداً نفثَ في الهواء، فلا بدّ أن يتعرّض لسؤال الملكين، وقد جاء الخبر بذكر الملكين ووصفهما على لسان النبي -عليه الصلاة والسلام- بقوله: (إذا قُبِرَ الميِّتُ؛ أتاهُ ملَكانِ أسودانِ أزرقانِ، يقالُ لأحدِهِما: المنكرُ، وللآخرِ: النَّكيرُ)، ويقرّر أهل العلم أنّ الحياة بعد الموت حياةً تختلف بطبيعتها عن حياة الإنسان في الدنيا كما ثبتتْ بذلك الأدلة، وأنّ القبر إمّا روضةٌ من رياض الجنة، وإمّا حفرةٌ من حفر النار، ويقرّر علماء أهل السّنة والجماعة أنّ العذاب أو النعيم يكونان للروح والجسد معاً في القبر.
وقد شاءت إرادة الله -سبحانه- أنْ يتنقّل الإنسان في أربع دورٍ، وجعل -تعالى- كلّ دارٍ يُقيم بها الإنسان أعظم من التي قبلها؛ فالدار الأولى وهو في بطن أمّه، وذلك مدّة حمله في الرحم ذاك القرار المكين ، أمّا الدار الثانية فهي دار الدنيا التي وُلد ونشأ فيها، واكتسبت فيها الكثير من أسباب السعادة والشقاء، والدار الثالثة هي دار البرزخ ، وهي أوسع من دار الدنيا وأعظم، وقياس للحياة الدنيا كنسبة الدنيا إلى بطن الأم، والدار الرابعة هي دار الآخرة، وهي الدار الباقية، إنّها دار القرار؛ قرارٌ في الجنة أو قرارٌ في النار ، وقد جرت سنة الله -سبحانه- أن يتنقّل الإنسان طبقاً بعد طبقٍ، وداراً بعد دارٍ حتى يصل إلى دار النهاية الأخيرة التي لا دار بعدها، وصدق الله العظيم إذ يقول: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ).
ولكن، هذه الحياة التي يقضيها الإنسان بعد الموت، ما اسمها، وما هي طبيعتها وخصائصها، وكيف يكون حال الميت فيها من ناحية النعيم أو العذاب، وهل هي بدايةٌ لليوم الآخر بالنسبة للميت، أم أنّ اليوم الآخر شيءٌ مختلفٌ عنها؟
عالم البرزخ
يعدّ عالم البرزخ من عوالم الغيب التي يجب على المسلم الإيمان بها كونها تبعاً لركن الإيمان باليوم الآخر، ومن هنا كان لزاماً على المرء المسلم أنْ يتوقّف عن الخوض فيها برأيه وإعمال عقله، وعليه أنْ يأخذ أخبار الغيب كلّها من مصادرها الشرعية؛ القرآن الكريم، وما صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
تعريف البرزخ
يُعرّف البرزخ في لغة العرب بأنّه الحاجز والحائل بين كلّ شيئين، وتسمّى قطعة الأرض التي بين بحرين وتصل أرضاً بأرضٍ برزخاً، ويدخل في هذا المعنى قوله سبحانه: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ*بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ)، والمعنى الاصطلاحي للبرزخ لا يبتعد عن دلالته اللغوية؛ إذ يعرّف البرزخ شرعاً بأنّه: المرحلة الفاصلة بين دار الدنيا ودار الآخرة، وتحدّد بأنّها ما بين أن يموت الإنسان إلى أن يُبعث يوم القيامة، فهي الدار التي تعقب موت الإنسان وحتى يوم البعث .
السؤال والجزاء في البرزخ
من أهمّ الأمور الغيبية التي يجب على المسلم الإيمان بها هو أنّ الحساب بعد الموت حقٌ وصدقٌ، وفي هذا يقول المولى تبارك وتعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وقد تقرّر عند أهل العلم أنّ الحساب بعد الموت يكون على مرحلتين؛ الأولى: بعد الموت وقبل البعث، والثانية: بعد البعث في يوم القيامة، حيث يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وفيه يتقاصّ الخلق في المظالم، وسُميّ يوم القيامة بيوم الحساب، حيث يقول الله عزّ وجلّ: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ)، أمّا الحساب الذي في القبر بعد الموت فثابتٌ بنصوصٍ شرعيةٍ كثيرةٍ، منها ما روته عائشة -رضي الله عنها- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (أُوحيَ إليَّ أنكم تُفتنون في القبورِ)، وورد عن ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- أنّ الفتنة في القبر امتحانٌ لإيمان العبد، وذكر بعض أهل العلم أنّ حساب أهل الإيمان في قبورهم تخفيفٌ عليهم من حساب يوم القيامة؛ فيأتي يوم القيامة وقد طُهّر من ذنوبه، ويجازى الإنسان في حياة البرزخ ، إنْ كان خيراً فخيراً، وإنْ كان شراً فبما قدّمت يداه، أمّا دخول الجنة والنار فلا يكون إلّا بعد يوم الحساب، فإنّ أوّل من يدخل الجنة دخولاً حقيقيّاً تامّاً في الآخرة هو النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذلك لما صحّ به الخبر من رواية أنس -رضي الله عنه- أنّ النبي -عليه السلام- قال: (آتي بابَ الجنةِ يومَ القيامةِ؛ فأستفتِحُ؛ فيقولُ الخازِنُ: مَنْ أنت؟ فأقولُ: محمدٌ، فيقولُ: بك أُمرتُ لا أفتحَ لأحدٍ قبلَك)، ولكنّ هذا لا يمنع من أنّ الله -سبحانه- يتنعّم على بعض الأرواح الصالحة بدخول الجنة دون أجسادها؛ ففي الحديث يقول النبي -عليه الصلاة والسلام- في نصٍ صريحٍ صحيحٍ: (إنَّما نسمةُ المؤمنِ طيرٌ يَعْلَقُ في شجرِ الجنةِ، حتى يُرْجِعَهُ اللهُ إلى جسدِهِ يومَ يبعثُهُ)، وفي المقابل فإنّ بعض الأرواح الشريرة تُعرض على النار؛ فتذوق من حرّها وشررها، مصداقاً لقول الله تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ).