ما حكم عقوق الوالدين
حُكم عقوق الوالدين
عقوق الوالدَين من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله -تعالى-؛ لِما لهما من حَقٍّ على الولد، وقد جاء القرآن الكريم صريحاً في الوصيّة بهما والحَثّ على شُكرهما، فقد قرن الله -تعالى- عبادته بطاعتهما وبِرّهما؛ فقال: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)، وقال أيضاً: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)، كما ورد في حديث النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قوله: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟ ثَلَاثًا، قالوا: بَلَى يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: الإشْرَاكُ باللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ - وَجَلَسَ وَكانَ مُتَّكِئًا فَقالَ - أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، قالَ: فَما زَالَ يُكَرِّرُهَا حتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ)، كما ورد تحريم عقوق الأمّهات بشكل خاصّ؛ فقد قال النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: (إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ علَيْكُم عُقُوقَ الأُمَّهاتِ)، ويدلّ هذا على أنّ العقوق غالباً ما يكون في حقّ الأمّهات؛ طمعاً في حنانهنّ وعَطفهنّ؛ ولذلك كان البِرّ في حَقّهنّ آكدٌ وأوجب،
عقوبة عقوق الوالدين
تتحقّق عقوبة عقوق الوالدَين في أمورٍ عِدّةٍ، وهي كالآتي:
- اعتبار عقوق الوالدَين من أكبر الكبائر ؛ لِما ورد من قول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟ ثَلَاثًا، قالوا: بَلَى يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: الإشْرَاكُ باللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ - وَجَلَسَ وَكانَ مُتَّكِئًا فَقالَ - أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، قالَ: فَما زَالَ يُكَرِّرُهَا حتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ).
- استحقاق عاقّ الوالدَين لعنةَ الله -تعالى- إذا سَبّ والدَيه أو لَعَنهما؛ فقد ورد عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- من حديث ابن عباس -رضي الله عنه- أنّه قال: (ملعونٌ مَنْ سبَّ أباهُ ، ملعونٌ مَنْ سَبَّ أُمَّهُ).
- تعجيل عقوبة عاقّ الوالدين في الدُّنيا قبل الآخرة؛ فقد قال النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: (اثنانِ يُعجِّلُهما اللهُ في الدنيا : البغيُ ، و عقوقُ الوالدَينِ).
- دخول عاقّ الوالدَين النارَ والعياذ بالله منها؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (رَغِمَ أنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُ، قيلَ: مَنْ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: مَن أدْرَكَ أبَوَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ، أحَدَهُما، أوْ كِلَيْهِما فَلَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ).
- استجابة دعاء الوالدَين على الابن العاقّ؛ لِما ورد عن النبيّ الكريم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّه قال: (ثلاثُ دعواتٍ مستجاباتٍ لا شكَّ فيهنَّ: دعوةُ المظلومِ ودعوةُ المسافرِ ودعوةُ الوالدِ على ولدِه).
التوبة عن العقوق
يجب على المسلم أن يُوقِن أنّ الله -تعالى- غفور رحيم؛ ممّا يعني أنّ عليه أن يُبادر إلى التوبة إليه؛ ويعلمَ أنّ النَّدم على المعصية تعني التوبة عنها؛ فقد ورد عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (الندمُ توبةٌ)، وتجدر الإشارة إلى أنّه ينبغي على العاقّ أن يتوب إلى الله -تعالى- قبل وفاة والدَيه وفي حياتهما؛ فيندم على عقوقه، ويسعى إلى بِرّهما بشتّى الوسائل، ويحرص على خدمتهما، أمّا إن لم يستدرك نفسه إلّا بعد وفاتهما، فإنّ عليه أنّ يتنبّه إلى أمرَين مُهمَّين، هما:
- إدراك أنّ النَّدَم وحده توبةٌ؛ فمن أحكام التوبة أنّ المسلم العاصي إذا استعصَت عليه أسباب التوبة وتعذّرت عليه أسبابها أو عَجِز عنها، فإنّ توبته ممكنة حسب قول جماهير أهل العلم، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية.
- إدراك رحمة الله -تعالى- بالمسلمين في عدم غَلق باب بِرّ الوالدَين بعد وفاتهما؛ إذ إنّ بإمكان الولد المُقصِّر أن يجتهدَ في العبادة والبِرّ قَدْر إمكانه، فهناك أوجه عدّة للبِرّ والإحسان إلى الوالدَين بعد وفاتهما، ومنها ما يأتي:
- أن يُكثرَ من الدعاء لهما؛ فقد قال -تعالى-: (وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)، وقال النبيّ الكريم -صلّى الله عليه وسلّم-: (إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له).
- أن يحرص على أداء الأعمال الصالحة التي ينالان الثواب والأجر بها، كالصدقة، وأداء العمرة أو الحجّ عنهما.
- أن يسعى إلى إكرام أصدقائهما وخِلّانهما؛ فقد قال النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: (إنَّ مِن أَبَرِّ البِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ).
قيمة بِرّ الوالدين في الإسلام
يُعَدّ البِرَّ بالوالدَيْن فِطرةٌ سليمةٌ خُلِقَت في الإنسان، وجاءت الشَّرائع كُلّها تُقرّها وتَحُثّ عليها، ففيها حِفظ للجميل الذي قدَّمَه الوالدان؛ قال الله -عزّ وجلّ-: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)، وهو عملٌ يُحبّه الله -تعالى-، بل هو من أحبّ الأعمال إليه -سبحانه-؛ فقد جاء عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنّه قال: (سَأَلْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ الأعْمالِ أحَبُّ إلى اللهِ؟ قالَ: الصَّلاةُ علَى وقْتِها قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: ثُمَّ برُّ الوالِدَيْنِ قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: ثُمَّ الجِهادُ في سَبيلِ اللَّهِ)؛ وهو أيضاً خُلقٌ عظيمٌ من أخلاق الأنبياء، وخُصلةٌ من خِصال الصالحين والأتقياء، وبه يتجلّى صِدق الإيمان ، وهو كرامةٌ وإحسانٌ، ووفاءٌ وامتنانٌ، بالإضافة إلى أنّه من أحسن مَحاسن الإسلام ، وأندى الفضل للوالدَيْن بإبراز حَقّهما وحِفظُ جميلهما، كما أنّه عنوان كمال الشريعة الإسلاميّة وشموليّتها في أداء كافّة حقوق أهلها وواجباتهم، وهو إلى جانب ذلك كلّه من أَجَلّ العبادات، وأسمى الطاعات، وأهمّ المَهمّات، وبه يُحصِّل المسلم عظيم الثواب والأجر، أمّا عقوق الوالدَين، فهو من أنكر المُنكَرات، وأقبح السيِّئات؛ ولهذا جاءت الشريعة الإسلاميّة بالأدلّة الصحيحة التي تبيّن ذلك من الكتاب والسنّة، وهي كما يأتي:
- اقتران عبادة الله -تعالى- ببِرّ الوالدَيْن والإحسان إليهما، واقتران شُكرهما بشُكره؛ قال -تعالى-: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)؛ وقد ازداد ذلك البِرَّ مكانةً أعظم، وعَظَمةً أقوم؛ لأنّ عبادة الله -تعالى- وحده هي الأساس، والوالدان هما السبب الذي يُستجلَب به الخَلْق؛ ولذلك يُعَدّ فضلهما والإحسان إليهما من أجلّ الحقوق وأعظمها؛ إذ إنّهما أدَّيا حَقّ صغارهم بكُلّ حنانٍ وحبٍّ، ورعاية وعناية؛ فاستَحقّا هذا البِرّ وهما كبيران من قِبل أبنائهما؛ الأمر الذي أدّى إلى تحريم أدنى الأذى في حَقّهما، حتى ولو كان هذا الأذى مُتمثّلاً بالتأفُّف، والتضجُّر في حضرتهما؛ قال الله -تعالى-: (وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا إِمّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَو كِلاهُما فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما وَقُل لَهُما قَولًا كَريمًا)
- اعتبار بِرّ الوالدَين أعظم من الجهاد في سبيل الله منزلةً؛ وذلك لِما جاء في ما ورد عن الصحابيّ الجليل عبدالله بن عمرو، عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-؛ إذ قال: (أَقْبَلَ رَجُلٌ إلى نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَقالَ: أُبَايِعُكَ علَى الهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، أَبْتَغِي الأجْرَ مِنَ اللهِ، قالَ: فَهلْ مِن وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟ قالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلَاهُمَا، قالَ: فَتَبْتَغِي الأجْرَ مِنَ اللهِ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَارْجِعْ إلى وَالِدَيْكَ فأحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا)، والمُراد بالجهاد في الوالدَين: بَذْل الطاقة والوُسْع في بِرّهما، والإحسان إليهما.
- اعتبار بِرّ الوالدَين من أفضل الأعمال إلى الله -تعالى- بعد الصلاة التي تُعَدّ أهمّ دعامةٍ من دعائم الإسلام وثوابته، وبِرّ الوالدَين عَمَلٌ جليلٌ يقودك إلى جِنان الرحمن؛ ولهذا ورد عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: (سَأَلْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أيُّ العَمَلِ أفْضَلُ؟ قالَ: الصَّلاةُ لِوَقْتِها قالَ: قُلتُ ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: برُّ الوالِدَيْنِ قالَ: قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: الجِهادُ في سَبيلِ اللَّهِ).
وتجدر الإشارة إلى أنّ مِن أوجب الواجبات على المسلم بِرّ والدَيه والإحسان إليهما، كما تجب طاعتهما في غير معصية الله -عزّ وجلّ-، أمّا إن كانا غير مسلمين، فإنّ عليه أن يُحسنَ صُحبتَهما بالمعروف في الدُّنيا، ولا يُطيعهما في معصيةٍ؛ فقد جاءت آياتٌ كثيرةٌ تدلّ على ذلك، ومنها قوله -تعالى-: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا).