ما المقصود بحبل الله
الاستمساك بشرع الله
لا شكّ أنّ ما أنزله الله تعالى من شرعٍ فيه ما يحقّق للمسلم سعادته ورضاه، طالما تمسّك بهذا الشرع وأقامها كما أراد الله سبحانه، ولقد أشار القرآن الكريم لذلك مراراً؛ ففي قوله سبحانه: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى)، إشارةٌ كما ذكر ابن عباس رضي الله عنه، إلى أنّ من اتّبع أمر الله الوارد في كتابه، ضمن الله تعالى له ألّا يشقى في الدّنيا والآخرة، وفي الدّعاء الوارد عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- لمن أصابه همّ أو غمّ، أوصاه أن يدعو فيختم دعائه بقوله: (أنْ تجعَلَ القُرآنَ ربيعَ قلبي ونورَ بصَري وجِلاءَ حُزْني وذَهابَ همِّي إلَّا أذهَب اللهُ همَّه وأبدَله مكانَ حُزْنِه فرَحًا، قالوا: يا رسولَ اللهِ ينبغي لنا أنْ نتعلَّمَ هذه الكلماتِ؟ قال: أجَلْ، ينبغي لِمَن سمِعهنَّ أنْ يتعلَّمَهنَّ)، وفي تعليقه على هذا الحديث قال ابن القيم في كتابه الفوائد: (ولمّا كان الهمّ والحزن والغمّ يضاد حياة القلب واستنارته، سأل أن يكون ذهابها بالقرآن؛ فإنها أحرى ألا تعود وأما إذا ذهبت بغير القرآن من صحةٍ أو دنيا أو جاهٍ أو زوجةٍ أو ولدٍ فإنها تعود بذهاب ذلك).
ولأنّ القرآن الكريم هو سبب سعادةٍ رئيسيّ للإنسان؛ فقد أوصى الله تعالى عباده أن يستمسكوا به ويأتمروا بأوامره وينتهوا بنواهيه، قال تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وقال -عليه السلام- في خطبة الوداع موصياً المسلمين من بعده: (وأنا تاركٌ فيكم ثقلَينِ أولُهما كتابُ اللهِ فيه الهدى والنُّورُ من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضلَّ، فخُذوا بكتاب اللهِ تعالى واستمسِكوا به)،
المقصود بحبل الله
ورد في كتب التفسير أكثر من معنى لقوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ)، فذكر البغوي في معالم التنزيل أنّ الحبل هو ما يُتمسّك به رغبةً في الوصول؛ لذلك سمي الإيمان حبلاً؛ لأنّه سببٌ في الوصول إلى الفلاح والنجاة من النار، وأمّا أقوال المفسّرين في معنى الحبل في الآية الكريمة، فذكر ابن عبّاس أنّه دين الله، وذكر ابن مسعود أنّه الجماعة؛ لقوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا)، فقال في التفسير: (عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّهَا حبل الله الذي أمر بِهِ، وَإِنَّ مَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ وَالطَّاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ)، وقد ذكر مجاهد وابن عطاء أنّ المقصود بحبل الله: هو عهد الله، وقال قتادة والسدّي هو: القرآن الكريم ، وقد روي عن وكيع عن الأعمش عن عبد الله قوله: (هلمّ إلى الطريق، فاعتصموا بحبل الله فإنّ حبل الله القرآن)، وعن مقاتل بن حيّان أنّه قال: حبل الله أي أمر الله وطاعته، وقد روي عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قوله: (كتابُ اللهِ، هو حَبْلُ اللهِ المَمْدُودُ مِنَ السَّماءِ إلى الأرضِ).
الوحدة وخطورة الفرقة في الإسلام
كان من التفاسير التي ذكرها العلماء في معنى حبل الله: الجماعة، والتمسّك بالجماعة والوحدة وعدم الفرقة والاختلاف من الأمور التي أكّد عليها الإسلام ، والأصل في الإنسان أنّه كائنٌ اجتماعيّ، يحب التواصل ومجالسة الآخرين ولقاءهم، والأهمّ من ذلك أنّ الإنسان بجماعته وأهله أقوى وأكثر همّةً وعزيمةً وصبراً؛ فلقد قال -صلّى الله عليه وسلّم- مرغّباً في التزام الجماعة ومحذراً من مغبّة الاختلاف والفرقة :(عليكم بًالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد من أراد بحبوحة الجنة فيلزم الجماعة)، فقد ربط النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بين التزام الجماعة ودخول الجنّة ؛ وذلك للحاجة إليها وللترغيب فيها، وفي حديثٍ آخر جاء التحذير من الفرقة في قوله: (فعليكُم بالجماعةِ؛ فإنَّما يأكلُ الذِّئبُ من الغنَم القاصيةَ)، وفي قول آخر أنّ يد الله مع الجماعة، بالمعونة والتأييد والبركة، وإذا كان النّاس أمّةً مجتمعةً، كانت مهيبةً أمام أعدائها ومن أراد بها سوءاً؛ ولأجل ذلك كان الأمر من الله تعالى بالتزام الجماعة والاستمساك بها.
وحتّى يؤكّد الإسلام ضرورة الجماعة في سائر شؤون حياة المسلم ؛ جعل كثيراً من العبادات التي يؤدّيها المسلم تؤدّى ضمن جماعةٍ، وأوّل هذه العبادات وأهمّها: الصلوات المفروضة، فقد أوصى النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- المسلين في العديد من الأحاديث أن يلتزموا الجماعة في صلواتهم، قال صلّى الله عليه وسلّم: (صلاةُ الجماعةِ أفضلُ من صلاةِ الفذِّ بسبعٍ وعشرينَ درجةً)، وفي صلاةٍ كصلاة الجمعة؛ فإنّها لا تُقبل إلا إذا كانت في جماعة، وحتّى ألفاظ القرآن الكريم التي تتحدث عن العبادات، فإنّها وردت في القرآن الكريم بلفظ الجماعة لا بلفظ الفرد، قال تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، وذلك في السّورة التي تقرأ في كلّ ركعة وهي سورة الفاتحة ؛ لتحقيق معنى الجماعة في نفس المسلم المصلّي.
وكما في الصّلاة، فقد جاء مفهوم الجماعة ليُغرس في نفس المسلم في عباداتٍ أخرى كالصّيام والحجّ، فالصيام وإن كان يبدو عبادةً فرديّة يمتنع كلّ فردٍ عن طعامه وشهواته، إلا أنّه ملزمٌ في وقتٍ معيّن هو شهر رمضان، ومدّة محدّدة من الفجر حتّى المغرب، ويفعل ذلك كلّ المسلمين معاً، وأمّا الحجّ فمن أوضح الأمثلة على أداء العبادات جماعة، ولقد أوصى الله تعالى نبيّه -صلّى الله عليه وسلّم- وهو نبيّ يوحى إليه، أوصاه أن يلتزم جماعةً مؤمنةً يذكر الله تعالى ويعبده معهم؛ فإنّ ذلك أدعى إلى اجتلاب الخير والصّلاح، قال تعالى في سورة الكهف : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ).