أبو بكر الصديق رضي الله عنه شخصيته وعصره
همته العالية في الدعوة إلى الله
الصحابي أبو بكر الصدّيق -رضي الله عنه- هو أول من أسلم مع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- من الرجال، وبدأ يدعو النّاس إلى رسالة التوحيد مع رسول الله، وكان أبو بكر رجلاً قريبا من قومه، مُحبباً إليهم، سهلاً ليناً في التعامل معهم، يعلم ما يناسبهم، ذو خلق شريف بينهم، وكان الناس يقدمون إليه في كثير من الأمور، فقد كان أبو بكر الصديق عالماً، تاجراً، حسن المجالسة والحديث .
واستغل مَن يأتي لمجالسته والتعامل معه في دعوته إلى الإسلام، فأسلم على يده: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، حيث سمعوا دعوته فأخذهم إلى رسول الله، فعرض عليهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن، فكان هؤلاء من السابقين إلى الإسلام، وجنوده المخلصين له، المدافعين عنه.
صحبته للنبي الكريم ونصرته
صاحب أبو بكر رسول الله في الهجرة، ولمّا وصلا غار ثور طلب من رسول أن يدخل الغار قبله؛ ليتفقّده خوفاً على رسول الله من أن يصيبه أذى، فكان -رضي الله عنه- ثاني اثنين إذ هما في الغار، قال -تعالى-: (إِلّا تَنصُروهُ فَقَد نَصَرَهُ اللَّـهُ إِذ أَخرَجَهُ الَّذينَ كَفَروا ثانِيَ اثنَينِ إِذ هُما فِي الغارِ إِذ يَقولُ لِصاحِبِهِ لا تَحزَن إِنَّ اللَّـهَ مَعَنا فَأَنزَلَ اللَّـهُ سَكينَتَهُ عَلَيهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنودٍ لَم تَرَوها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذينَ كَفَرُوا السُّفلى وَكَلِمَةُ اللَّـهِ هِيَ العُليا وَاللَّـهُ عَزيزٌ حَكيمٌ)،
وكان من أحبّ النّاس إلى الرسول، ففي حديث عمرو بن العاص قال: (أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَعَثَهُ علَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فأتَيْتُهُ فَقُلتُ: أيُّ النَّاسِ أحَبُّ إلَيْكَ؟ قَالَ: عَائِشَةُ، فَقُلتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ فَقَالَ: أبُوهَا)، وقد عاهد نفسه على أن يصدّق رسول الله فيما يخبر به من غير شكّ، وأعظم ذلك ما قاله حين أخبره المشركون عن حادثة الإسراء والمعراج، فردّ عليهم قائلاً: إن كان قال فقد صدق.
واستمرّت صحبة أبي بكر لرسول الله منذ أن بعثه الله إلى أن توفاه، وتجلّت مكانة أبي بكر وأفضليته في اختياره رفيقاً لرسول الله في الهجرة من مكة إلى المدينة ، ومناصرته له، وحرصه على ألّا يحزن، فكان الصاحب الوحيد لرسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، وفي يوم بدر في حادثة العريش لم يكن مع رسول الله سواه، وفي حياة رسول الله كلّها كان أبو بكر صاحبه ومرافقه، ومشاركاً له في اختصاص الله لهما بالمعيّة والتأييد والحفظ.
أخلاق أبي بكر الصديق
اتّصفت شخصية أبي بكر الصديق بالعديد من الصفات التي تبيّن أخلاقه الكريمة ، ومن هذه الأوصاف:
المسابقة إلى الخيرات
اتصف أبو بكر الصدّيق بأرفع الأخلاق وأحسنها، فكان سبّاقاً للخيرات لا يسبقه إليها أحد، ومن ذلك ما يرويه أبو هريرة أنّ رسول الله سأل أصحابه: (مَن أصْبَحَ مِنْكُمُ اليومَ صائِمًا؟ قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، قالَ: فمَن تَبِعَ مِنْكُمُ اليومَ جِنازَةً؟ قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، قالَ: فمَن أطْعَمَ مِنكُمُ اليومَ مِسْكِينًا قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، قالَ: فمَن عادَ مِنْكُمُ اليومَ مَرِيضًا قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، فقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: ما اجْتَمَعْنَ في امْرِئٍ إلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ).،
ومنه ما رواه أبو هريرة عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (ما نفعَني مالٌ قطُّ، ما نفَعني مالُ أبي بَكرٍ، قالَ: فبَكى أبو بَكرٍ وقالَ: يا رسولَ اللَّهِ! هل أنا ومالي إلَّا لَكَ يا رسولَ اللَّهِ!)، وفي الهجرة لمّا خرج رسول الله وأبو بكر في الهجرة أخذ أبو بكر ماله كلّه في سبيل الله، وكان قد بلغ ما بين الخمسة والستة آلاف.
وأراد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن يسبقه في الإنفاق، ففي يوم من الأيام أمرهم رسول الله بالصدقة، فجاء عمر بنصف ماله، وجاء أبو بكر بماله كلّه، فسأله رسول الله: (ما أبقيتَ لأهلِكَ ؟ قلتُ مثلهُ، وأتى أبو بكرٍ بكُلِّ ما عنده، فقال يا أبا بكرٍ: ما أبقيتَ لأهلِكَ ؟ فقال: أبقيتُ لهمُ اللهَ ورسولَهُ، قلتُ : لا أسبِقُهُ إلى شيءٍ أبدًا)، وكذلك فعل في غزوة تبوك، فقد قام بتجهيز جيش الغزوة كاملاً، وكان يتميّز بكثرة شراء العبيد وعتقهم.
اتصافه بالرفق واللين والتواضع والحلم
تميّز أبو بكر الصديق بأنه كان رجلاً أسيفاً، بمعنى أنّه امتلك قلباً رقيقاً رحيماً، سرعان ما تدمع عيناه فيبكي، فقالت عائشة -رضي الله عنها- تصفه: (وكانَ أبو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً، لا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إذَا قَرَأَ القُرْآنَ).، وقد ساعدته رقة قلبه ورحمته لأن يكون قريب القلب من الخلق، يقتربون منه ويتوددون إليه، وما ذلك إلّا لحكمة من الله بأن يكون أبا بكر المناصر والمعين الأول لرسول الله في دعوته، فقال فيه رسول الله: (أرحمُ أمَّتي بأمَّتي أبو بَكرٍ).
وقد كان عمر بن الخطاب يعتني بعجوزٍ عمياء، فيذهب إليها يقضي لها حاجاتها ويحضر لها الماء، لكنه كان يجد من سبقه إليها، فعلم أنّ الذي يسبقه إنّما هو أبو بكر، وكان حينها خليفةً للمسلمين،وذلك ممّا يدل على تواضعه، وكان حليماً أيضاً، ففي يوم جاءه الحسن بن علي وهو على المنبر، فقال له: انزل عن منبر أبي، فقال: صدقت، وأخذه في حجره وبكى، وكان يحرص على ألّا يغضب إلّا لله، وألّا يغضب رسول الله.
عصر أبي بكر الصديق
عاصر أبو بكر الصديق النبي -صلى الله عليه وسلم- في أصعب الأوقات، التي قل فيها المسلمون، ولم يكن الإسلام قد قويت شوكته، وضرب أبو بكر الصديق أروع أمثلة الولاء والنصرة للنبي، والإسلام.
وبعد وفاة النبي مر المسلمون بظروف متزعزعة، عمل أبو بكر الصديق على إحلال الاستقرار في المجتمع المسلم، وأكمل ما بدأه النبي، وظهرت منجزات أبي بكر المتسقة مع عصره من خلال ما يأتي.
ثباته ورباطة جأشه في أصعب المواقف
ظهر حزم أبي بكر واضحاً يوم وفاة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، فإن عمر بن الخطاب قال: والله ما مات رسول الله، أمّا أبو بكر فأقبل إلى رسول الله ورفع الغطاء عن وجهه وقبّله، وقال: بأبي أنت وأمي، طبت حيّاً وميّتاً، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبداً، ثمّ خرج إلى الناس وقال: أيها الحالف على رسلك، فجلس عمر.
وأكمل أبو بكر يحمد الله ويُثني عليه وقال: (فمَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ مَاتَ، ومَن كانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، فإنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَما مُحَمَّدٌ إلَّا رَسولٌ قدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إلى {الشَّاكِرِينَ} واللَّهِ لَكَأنَّ النَّاسَ لَمْ يَكونُوا يَعْلَمُونَ أنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا حتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، فَتَلَقَّاهَا منه النَّاسُ، فَما يُسْمَعُ بَشَرٌ إلَّا يَتْلُوهَا).
جمع القرآن في عصر أبي بكر الصديق
استشهد العديد من حفظة القرآن الكريم في عهد أبو بكر الصدّيق، فخاف الصحابة من ضياع القرآن الكريم بموت حفظته، مما دفعهم إلى جمع القرآن الكريم في مصحف واحد، وقد جاءت فكرة الجمع من عمر بن الخطاب قائلاً لأبي بكر: (إنَّ القَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَومَ اليَمَامَةِ بقُرَّاءِ القُرْآنِ، وإنِّي أخْشَى أنْ يَسْتَحِرَّ القَتْلُ بالقُرَّاءِ بالمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ القُرْآنِ، وإنِّي أرَى أنْ تَأْمُرَ بجَمْعِ القُرْآنِ)،
وافق أبو بكر الصديق على جمع القرآن]، وأوكل المهمة لزيدَ بن ثابت للقيام بهذه المهمة، ذلك أنّه كان شاباً ذكياً فطناً عدلاً ضابطاً، حسن الخط، إضافةً إلى أنّه كان من كتّاب الوحي، وكان شاهداً على العرضة الأخيرة التي عرض بها رسول الله القرآن قبل وفاته، فاعتمد زيد في جمع القرآن على ما حُفظ في الصدور، وما كُتب في السطور، واشترط في المكتوب أن يشهد عليه شاهدين على أنّه كتب بين يدي رسول الله، مع مطابقته لما حُفظ في الصدور، وقد أخذ الجمع منه ما يقرب من الخمسة عشر شهراً، وبقيت النسخة عند أبي بكر إلى وفاته، وامتازت بترتيب السور والآيات، واقتصاره على ما هو من القرآن فقط، واشتماله على الحروف السبعة، إضافةً إلى إجماع الصحابة على صحته ودقته.
الخلاصة
اتصف أبو بكر الصدّيق -رضي الله عنه- بالعديد من الصفات، وامتاز بالكثير من الفضائل والخصائص، فقد كان أوّل من أسلم من الرجال، وساعد في نشر رسالة الإسلام، فأسلم على يده الكثير من الصحابة السابقين إلى الإسلام، واتصف بالحلم بالرّفق والحلم واللين، والتواضع، والحلم، وكان سباقاً إلى الخير، وهو الذي اختاره رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ليكون رفيقه في الهجرة، وقد امتاز عصره بجمع القرآن الكريم في مصحف واحد، بعد أن كان متفرّقاً عن الصحابة مكتوباً ومحفوظاً في صدورهم.