ما الذي أبكى الرسول
مواقف أبكت الرسول
بكاء الرسول من خشية الله
لعلّ من أهمّ الأسباب التي تؤدي إلى نزول الرّحمات ومغفرة الذنوب ؛ البكاء من خشية الله، وقد كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- كثير البكاء خشيةً من الله، فبكى -عليه الصّلاة والسّلام- في صلاة الليل، فدخل عليه بلال بن رباح ورأى لحيته الشّريفة قد ابتلّت من الدّموع، فقال: (يا رسولَ اللهِ لِمَ تَبكي وقد غفَر اللهُ لك ما تقدَّم وما تأخَّر؟ قال: أفلا أكونُ عبدًا شكورًا، لقد نزَلَتْ علَيَّ اللَّيلةَ آيةٌ، ويلٌ لِمَن قرَأها ولم يتفكَّرْ فيها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ})، وبكى -عليه الصّلاة والسّلام- في صلاته، وأثناء سماعه للقرآن؛ فقد كان يطلب من عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن يتلو عليه الآيات، فلمّا قرأ ابن مسعود ووصل إلى قوله -تعالى-: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ شَهِيدًا)، ذرفت دموعه -صلّى الله عليه وسلّم-.
بكاء الرسول لفقد الأحبة
بكاء النبي لفقد أهله
مرضت ابنة رسول الله أم كلثوم -رضي الله عنها-، وازداد مرضها حتى شعرت بدنوّ أجلها، فبقيت في فراشها، ولم يفتر لسانها عن ذكر الله ، وفي صباح أحد الأيام دخلت عليها أم عياش، فوجدتها تنازع روحها، فأرسلت إلى رسول الله وعثمان بن عفان، فلمّا جاء عثمان ورآها بدأ ينادي عليها خائفاً أن يفقدها، ولمّا دخل رسول الله على ابنته وهي في لحظاتها الأخيرة ذرفت الدّموع من عينيه الشريفتين، ثم صعدت روحها إلى بارئها، وقامت بتغسيلها أسماء بنت عميس، وصفية بنت عبد المطلب، وأم عطيّة الأنصارية، وصلّى عليها الرّسول -عليه الصّلاة والسّلام-، ثمّ انطلقت جنازتها إلى البقيع ودُفنت فيها، ورسول الله راضياً بقضاء الله وقدره، حزيناً مُتألّماً لما أصابه من فقد ابنته؛ لكنّه كان صابراً -صلّى الله عليه وسلّم-، وقد كان ذلك في شهر شعبان في العام التاسع من الهجرة.
وبكى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- حتّى أبكى مَن حوله حين أَذِنَ الله له بزيارة قبر أمّه، وكذلك بكى حين تُوفّي ابنه إبراهيم، وقال: (إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ).
بكاء النبي لاستشهاد صحابته
حزن رسول الله على أصحابه الذين استُشهدوا في غزوة أحد ، ومنهم عمّه حمزة بن عبد المطلب، فقد بكى رسول الله لِفقده وحزن حزناً شديداً، ولمّا نقض يهود بني قريظة عهدهم مع رسول الله في يوم الخندق، ذهب رسول الله وحاصرهم خمساً وعشرين ليلةً، فلمّا يئسوا من أن يفكّ الحصار عنهم، خضعوا لرسول الله، وكان سعد بن معاذ -رضي الله عنه- مصاباً، وما لبث إلّا أن بدأ جرحه يتفاقم إثر غزوة الخندق ، وبدأت رُوحه تفيض إلى مولاها -عزّ وجلّ-، فقدم إليه الرّسول -عليه الصّلاة والسّلام- وأبو بكر وعمر، ثمّ تُوفي سعد؛ فحزن رسول الله والصّحابة على موته، وحزنت أمّه، فأخبرها الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- أنّ الله -عزّ وجلّ- قد ضحك لموت سعد، وأنّ عرش الرّحمن اهتزّ له، وقد شيّع جنازته سبعون ألف ملك.
وعلم رسول الله باستشهاد زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة في غزوة مؤتة قبل أن يعلم النّاس، وأخبرهم بذلك، فقد روى أنس بن مالك عن رسول الله فقال: (أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَعَى زَيْدًا، وجَعْفَرًا، وابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ، فَقالَ: أخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أخَذَ ابنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ وعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ: حتَّى أخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِن سُيُوفِ اللَّهِ، حتَّى فَتَحَ اللَّهُ عليهم)، وفي استشهاد جعفر -رضي الله عنه- ذهب رسول الله إلى أسماء بنت عُميس ليخبرها باستشهاد زوجها، وكانت قد جهّزت العجين، ونظّفت الأبناء، فدخل عليها رسول الله، وطلب منها أن تُحضر الأبناء، فأحضرتهم، فأقبل عليهم وشمَّهم وعيناه تذرفان الدموع، فسألته أسماء إن كان قد بلغه خبرٌ عن جعفر والّذين معه، فأخبرها بما حدث، فصاحت حتّى اجتمعن عندها النّساء، فخرج رسول الله، وأوصى بتحضير الطعام لأهل بيت جعفر -رضي الله عنه-.
وقاتل المسلمون ضدّ الروم في غزوة مؤتة ، وقد بلغ عددهم ثلاثة آلاف مقاتل، أمّا الروم فكان عددهم مئتي ألف، وفي الغزوة دخل أسامة مع أبيه زيد بن حارثة إلى أرض المعركة، ولم يبلغ عمره حينها الثامنة عشر، فحمي الوطيس واشتدّ القتال، فقاتل زيد حتى قُتل، ولم يتوانى أسامة لحظةً بعد مقتل أبيه، بل استمر في القتال تحت راية جعفر بن أبي طالب حتى استُشهد، ثم قاتل تحت راية عبد الله بن رواحة حتى استُشهد، ثم تحت راية خالد بن الوليد الذي استطاع بفطنته أن يضع خطّةً تُمكّن المسلمين من الانسحاب وإنقاذ جيش المسلمين من الروم، وقد عاد أسامة -رضي الله عنه- مع المسلمين إلى المدينة، وبعدها أقبل على رسول الله، فدمعت عين النبيّ وبكى -صلى الله عليه وسلم-، ثم أقبل في اليوم الذي يليه، فحصل مثلما حصل في اليوم الأول، وبكى رسول الله حزناً على زيد بن حارثة.
بكاء الرسول لأجل أمته
لقد بكى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- على أمّته، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه-: (أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ تَلا قَوْلَ اللهِ عزَّ وجلَّ في إبْراهِيمَ: {رَبِّ إنَّهُنَّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فمَن تَبِعَنِي فإنَّه مِنِّي} [إبراهيم: 36] الآيَةَ، وقالَ عِيسَى عليه السَّلامُ: {إنْ تُعَذِّبْهُمْ فإنَّهُمْ عِبادُكَ وإنْ تَغْفِرْ لهمْ فإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [المائدة: 118]، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وقالَ: اللَّهُمَّ أُمَّتي أُمَّتِي، وبَكَى)، فأمر الله -سبحانه- جبريل أن يسأل نبيّنا محمد عمّا يبكيه، وهو -عزّ وجلّ- يعلم، فجاء جبريل -عليه السلام- إلى النبيّ يسأله، فأخبره النبيّ، فأمر الله جبريل أن يُطمئن النبيّ، وأن الله -سبحانه وتعالى- سيرضيه في أمّته، ومنه ما رواه أبو هريرة عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (تَرِدُ عَلَيَّ أُمَّتي الحَوْضَ، وَأَنَا أَذُودُ النَّاسَ عنْه، كما يَذُودُ الرَّجُلُ إِبِلَ الرَّجُلِ عن إِبِلِهِ قالوا يا نَبِيَّ اللهِ أَتَعْرِفُنَا؟ قالَ: نَعَمْ لَكُمْ سِيما ليسَتْ لأَحَدٍ غيرِكُمْ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِن آثَارِ الوُضُوءِ، وَلَيُصَدَّنَّ عَنِّي طَائِفَةٌ مِنكُم فلا يَصِلُونَ، فأقُولُ: يا رَبِّ هَؤُلَاءِ مِن أَصْحَابِي. فيُجِيبُنِي مَلَكٌ، فيَقولُ: وَهلْ تَدْرِي ما أَحْدَثُوا بَعْدَكَ)؟
رحمة النبي عليه الصلاة والسلام
بعث الله -عزّ وجلّ- نبيّه محمداً إلى الإنس والجن جميعهم؛ ليكون رحمةً لهم، وليُخرجهم من الظلمات إلى النُّور، قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)، وقد تحلّى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بالأخلاق الحسنة الفاضلة التي كانت سبباً مُهمّاً في دخول أُممٍ كثيرةٍ في الإسلام؛ فقد كان بَرّاً، رحيماً، عدلاً، متواضعاً، صبوراً، وغيرها من الأخلاق التي تمسّك بها في جميع أحواله، وقد حثّنا على أنّه لا فرق ولا تفاضل بين النّاس عند الله -تعالى- إلّا بمعيارٍ واحدٍ فقط؛ ألا وهُوَ التقوى .
ومن الذين أسلموا بسبب رحمة وعفو النبي -صلّى الله عليه وسلّم-: ثُمامة بن أُثال، وقد قال لرسول الله: (وَاللَّهِ، ما كانَ علَى الأرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إلَيَّ مِن وَجْهِكَ، فقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الوُجُوهِ كُلِّهَا إلَيَّ، وَاللَّهِ، ما كانَ مِن دِينٍ أَبْغَضَ إلَيَّ مِن دِينِكَ، فأصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إلَيَّ، وَاللَّهِ، ما كانَ مِن بَلَدٍ أَبْغَضَ إلَيَّ مِن بَلَدِكَ، فأصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ البِلَادِ كُلِّهَا إلَيَّ)، وكذلك صفوان بن أميّة الذي أسلم بسبب إعطاء الرّسول -صلى الله عليه وسلّم- له مئة من الغنم، ثمّ مئة أخرى، فما زال يُعطيه حتّى أصبح أحبّ النّاس إليه، ثمّ أسلم، فَرحمتِهِ -صلّى الله عليه وسلّم- بِمن حوله كانت سبباً في محبة النّاس له ودخولهم في الإسلام، كما في قول الله -تعالى- لنبيّه -صلّى الله عليه وسلّم-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).