ما الحكمة من موت أبناء الرسول الذكور
الحكمة من موت أبناء الرسول الذكور
رَزق الله -تعالى- سيّدنا محمد -عليه الصلاة والسلام- بالعديد من الأولاد، ثم شاءت حكمة الله -تعالى- أن يموت أبناؤه الذكور أثناء حياته، والحكمة من ذلك:
- حتى لا تكون النبوّة لأبنائه من بعده، كما كانت لإسماعيل بعد نبيّنا إبراهيم -عليهما السلام-، فقد ثبت عن الصحابي الجليل أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنّه قال: (لو عاش إبراهيمُ لكان صدِّيقًا نبيًّا)، ومنه ما أخرجه البخاري في صحيحه عن إسماعيل بن أبي خالد قال: (قُلتُ لِابْنِ أبِي أوْفَى: رَأَيْتَ إبْرَاهِيمَ ابْنَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قالَ: مَاتَ صَغِيرًا، ولو قُضِيَ أنْ يَكونَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَبِيٌّ عَاشَ ابنُهُ، ولَكِنْ لا نَبِيَّ بَعْدَهُ).
- في ذلك مواساة للناس الذين لم يرزقهم الله بالذرية، أو للذين توفّي لهم أبناء، كما يعدّ ذلك من الابتلاء في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومعلومٌ أنّ الأنبياء هم أكثر الناس بلاءً، وقد ثبت عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أنّه قال: (قلتُ يا رسولَ اللهِ، أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟ قالَ: الأَنبياءُ ثمَّ الأَمثلُ فالأَمثلُ؛ يُبتلَى الرَّجلُ علَى حسَبِ دينِهِ، فإن كانَ في دينِهِ صلبًا اشتدَّ بلاؤُهُ، وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ ابتليَ علَى قدرِ دينِهِ، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يترُكَهُ يمشي علَى الأرضِ وما علَيهِ خطيئةٌ)، وقد أكدّت النصوص الشرعيّة على أنّ نبوّة محمد -صلى الله عليه وسلم- هي خاتمة النبوّات، وأنّه لن يكون نبيٌّ بعده، ولمّا أنجبت ابنته فاطمة الحسن والحسين لم يدّعي أحدٌ منهما أنّه نبي، وقد أوصى رسول الله بمحبة أهل بيته، فقال -تعالى-: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، وتتجلّى الحكمة في موت الأبناء الذكور دون الإناث؛ أنّ النبوّة كانت محصورةً في الذكور دون الإناث.
قصة موت أبناء الرسول الذكور
وفاة القاسم وعبد الله أبناء الرسول
رُزق سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بسبعة أولاد؛ ثلاثةٌ من الذكور، وأربعٌ من الإناث، وجميعهم من السيّدة خديجة -رضي الله عنها-، باستشناء ولده إبراهيم، فإنّه من زوجته ماريا -رضي الله عنها-، وأكبر أبناؤه القاسم، ويكنّى به رسول الله، أنجبته أمّه قبل البعثة، ولم يلبث طويلاً إلى أن توفّاه الله -تعالى-، فقد مات قبل فِطامه من الرضاعة، وكان قد بلغ سنّ المشي، وقد حزنت أمّه على فقده حزناً كبيراً، لِما كانت تتمنّاه من الولد من النبيّ محمد؛ فإنّ العرب بشكلٍ عام كانوا يُفضّلون ولادة الذكر على الأنثى، ففيه القوة، ومنه تكون السّلالة، وإليه النسب، وبقوا هكذا حتى جاء الإسلام فخفّت هذه العصبيّة بين الناس، وبيّن لهم الله -سبحانه- أنّه الرازق، يعطي من يشاء لمن يشاء، ثم بعد البعثة أنجبت خديجة -رضي الله عنها- عبد الله، ولُقّب بالطاهر والطيّب، لأنّ مجيئه كان بعد البعثة، وشاءت حكمة الله -تعالى- أن يموت وهو صغيراً، ومما يدلّ على أن عبد الله وُلد بعد البعثة؛ أن رسول الله دخل على خديجة وهي تبكي على ابنها عبد الله، وكان حينها قد مات، فأخبرته أنّ الباقي من لبنها قد دُرّ، ولم يستكمل عبد الله الرضاعة، فقال لها أنّ هناك مرضعة في الجنة سترضعه، وسألها أن يُسمعها صوته في الجنّة لتطمئن، فخفّف ذلك عنها وقالت: "بل صدق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم".
ويؤيّد ذلك ما جاء في تفسير سورة الكوثر وسبب نزولها، قال الله -تعالى-: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)، فيروي ابن عباس أنّ خديجة بعد أن ولدت ابنها عبد الله، تأخّر على رسول الله الولد، وبينما رسول الله يكلّم رجلاً، كان العاص بن وائل السهميّ ينظر إليه، فسأله رجلٌ عن النبيّ، فقال: هذا الأبتر، فأنزل الله -تعالى- قوله: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)، فيقول ابن عباس إنّ العاص أبترٌ عن أهله، وولده، وماله، وعن كل خيرٍ يُذكر به بعد موته، لأنه وصف النبيّ بذلك بعد وفاة ابنه عبد الله، وقال الزمخشريّ في الكشاف: إنّ من يُعاديك ويكرهك يا محمد هو الأبتر، فإنّ جميع المؤمنين إلى يوم القيامة أبناؤك، كما أنّ اسمك منطوقٌ على لسان جميع المؤمنين إلى يوم القيامة، فالأبتر هو المنسيّ بين الخلائق، وقيل في معنى السورة؛ أنّ الكوثر هو نهرٌ في الجنة ، أعطاه الله -تعالى- لمحمّد -عليه الصلاة والسلام-، وهو أفضل له من الولد، وسورة الكوثر مكّيّة، وقد أجمع جمهور المفسّرين على أنّ سورة الكوثر نزلت في العاص الذي كان يحاول صدّ النبيّ عن دعوته.
ولادة إبراهيم ابن الرسول
رزق الله -تعالى- نبيّه -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك بالولد الثالث من زوجته ماريّا، وأسماه إبراهيم، ولمّا حملت به أمّه كانت صغيرة في السّن، فلمّا جاءتها أعراض الحمل اعتقدت أنّها مريضة، فتوجّهت إلى أختها سيرين لكي تمرّضها، وعندما حضرت جارتها علِمت أنّ ما أصابها ليس بمرضٍ، وإنّما ما يصيب المرأة من الحمل، فاستغربت ماريا من ذلك، إذ لم يكن من العادة أنّ تحمل زوجات رسول الله، ومع ذلك فقد كانت تتمنّى أن تُرزق الولد من النبيّ، كما رُزقت هاجر بابنها إسماعيل من زوجها إبراهيم، فكلاهما من أصولٍ مصريةٍ تزوّجتا بنبيّ، وقد أوْلاها رسول الله العناية والاهتمام أثناء فترة حملها، حتى حانت الولادة، فأرسل إليها سلمى زوجة أبي رافع كي تولّدها، فولّدتها وحملت الجنين وقالت: بسم الله والله أكبر، وذهبت إلى رسول الله لتبشّره، فأكرمها وفرح بخبرها، وتوجّه إلى زوجته فبارك لها، وحمل ابنه فحمد الله وكبّره، وأسماه إبراهيم اقتداءً بأبي الأنبياء ، وتصدَّق بوزن شعره فضةً.
تسابقت النساء من أجل إرضاع إبراهيم، فأتت أمّ بردة زوجة البراء بن أوس -رضي الله عنه-، وطلبت من رسول الله أن تكون مرضعة ابنه، فوافق رسول الله وأعطاها نخلة، وأعطاها حقّ التصرف بسبعٍ من الماعز، لتُساعدها في اللّبن إن لم يكفِ لَبنها من أجل إرضاع ابنها مع ابن رسول الله، وكانت تأتي فتأخذه من بيت رسول الله إلى بيت مازن من بني النجار، فتُرضعه وتُعيده إلى بيت رسول الله، ولم تلبث طويلاً في إرضاعه إلى أن انتقل ذلك إلى أم سيف، وقد كان رسول الله يذهب إلى بيتها ليرى ابنه ويطمئن عليه، وكان رسول الله يأنس به، ويستريح إليه، وفي بعض الأحيان يأخذه ويدور به على زوجاته، وفي يومٍ من الأيام أخذه إلى عائشة -رضي الله عنها- ودفعه إليها، لترى الشبه بينه وبين أبيه، فأثار ذلك الأمر غَيْرتها، فردّت أنّه لا وجه للشبه بينهما، فأدرك رسول الله ما حصل لها، ولكنّها تعلم أنّ الرازق هو الله، ومع ذلك فلم تقدر أن تُخفي ما حاك في صدرها.
وفاة إبراهيم ابن الرسول
بلغ إبراهيم من العمر سنةً وستّة أشهر، وقد تعلّق به أبيه واعتاد عليه، حتى مرض فاحتارت أمّه فيما تقدمّه له حتى يشفى، ولم تصل إلى نتيجة، فأخذت به إلى أختها سيرين كي تساعدها في تمريضه، ففعلت له ما تستطيع ولم تصل إلى نتيجةٍ أيضاً، وكانت حالته الصحّية تزيد سوءاً، ولمّا شعرت أمّه أنّه يحتضر، أرسلت إلى أبيه ليأتي، فأتى وكان معه عبد الرحمن بن عوف، وكان إبراهيم حينئذٍ بحجر أمّه، فتناوله النبي ووضعه في حجره، وحزن عليه كثيراً، وما لبث إلى أن خرجت روحه، فبكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: (تَدْمَعُ العَيْنُ وَيَحْزَنُ القَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا ما يَرْضَى رَبَّنَا، وَاللَّهِ يا إِبْرَاهِيمُ إنَّا بكَ لَمَحْزُونُونَ)، وسمع أمّه وخالته تبكيان، فأراد أن يخفّف عن أمّه، فأخبرها أنّ له مرضعةً في الجنة.
وأتت أمّ بردة فغسّلته وكفّتنه، ووضعوه على سريرٍ صغير وحملوه، وسار به رسول الله والصحابة ومعهم عمّه العباس، حتى وصلوا إلى البقيع، فصلّى عليه رسول الله، ونزل بقبره الفضل بن العباس وزيد بن ثابت، وجلس أبيه على جانب القبر، ودفنه عند رجلٍ صالح، ووضع عند رأسه لبنة، حتى تكون إشارةً لمن يأتي لزيارته، وسوّى القبر، وطلب أن يأتوا له بقربةٍ من الماء، فرشّها على القبر، وقد وافق موت إبراهيم كسوف الشمس، فظنّ الناس أنّها انكسفت لموته، فقال لهم رسول الله: (إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ آيَتانِ مِن آياتِ اللَّهِ، لا يَخْسِفانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولا لِحَياتِهِ، فإذا رَأَيْتُمْ ذلكَ، فادْعُوا اللَّهَ، وكَبِّرُوا وصَلُّوا وتَصَدَّقُوا)، وكان ذلك في يوم الاثنين، التاسع والعشرين من شهر شوّال في السنة العاشرة للهجرة، كما حدّده محمود الفلكي، وهو اليوم الذي انكسفت فيه الشمس انكسافاً كلياً في المدينة المنورة.
صبر النبيّ على موت أبنائه
الصبر لغةً بمعنى الكفّ والحبس، ومنه قول الله -تعالى-: (وَاصبِر نَفسَكَ مَعَ الَّذينَ يَدعونَ رَبَّهُم بِالغَداةِ وَالعَشِيِّ يُريدونَ وَجهَهُ)، أمّا في الاصطلاح فهو منع النفس عن الوقوع في اليأس والتذمّر وكثرة الشكوى، وللصبر ثلاثة أنواع؛ أوّلها الصبر على طاعة الله ، وثانيها الصبر عن معصية الله، وثالثها الصبر على قضاء الله وقدره، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، وقال -سبحانه-: (وَاصبِر وَما صَبرُكَ إِلّا بِاللَّـهِ)، ويعدّ الصبر أساسٌ يرتكز عليه الكثير من الأخلاق، ومنه تنبع تربية النفس على كظم الغيظ ، والتأنّي، والحلم، ولا يتعارض الصبر مع الحزن والشّكوى، فالنبي يعقوب -عليه السّلام- يقول: (إِنَّما أَشكو بَثّي وَحُزني إِلَى اللَّـهِ)، وقال الماوردي -رحمه الله- إنّ مما يهوّن على المسلم أن يتحلّى بمثل هذه الأخلاق ، علمه بأنّ الله سيجازيه عليها أحسن جزاء، يقول -تبارك وتعالى-: (وَلَنَجزِيَنَّ الَّذينَ صَبَروا أَجرَهُم بِأَحسَنِ ما كانوا يَعمَلونَ).
ويروي أنس بن مالك -رضي الله عنه- موقف رسول الله حين توفّي ابنه إبراهيم، فيقول: (دَخَلْنَا مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى أَبِي سَيْفٍ القَيْنِ، وكانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عليه السَّلَامُ، فأخَذَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إبْرَاهِيمَ، فَقَبَّلَهُ، وشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عليه بَعْدَ ذلكَ وإبْرَاهِيمُ يَجُودُ بنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَذْرِفَانِ، فَقالَ له عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: وأَنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ فَقالَ: يا ابْنَ عَوْفٍ إنَّهَا رَحْمَةٌ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بأُخْرَى، فَقالَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ)، وإن القارئ لسيرة رسول الله يرى أنّه أصابه ابتلاءً عظيماً، وهو موت أبنائه جميعاً في حياته باستثناء فاطمة -رضي الله عنها-، ومع ذلك صبَر واحتسب، ورضي بما كتبه الله له، وما كان يظهر منه أكثر من دموعه الشريفة -عليه الصلاة والسلام-، ولم يكن يتعدّى حدود الأدب في خطابه مع الله -تعالى- أو في تعامله مع ما يصيبه من البلاء، كما أنّ البكاء عند نزول المصائب لا يؤثر على رضى المسلم بقضاء الله وقدره.