كيفية جهاد النفس
كيفيّة جِهاد النّفس
الصبر
إنّ للصّبر أنواعاً عديدة، أحدها جِهاد النّفس، وهو من أصعب أنواع الصبر، حيث إن الإنسان قد يتنبّه لِما حوله من أحداثٍ وأشخاص، فيصبر على ما يُصيبه منهم، ولكن أن يصبر على مقاومة نفسه وشهواته وردعها عما تُحب، وإجبارها على الاشتغال بالطّاعات والعبادات وكلّ ما هو مفيد للإنسان في الآخرة، هو أمر يحتاج لصبر كبير، فالنّفسُ مجبولةٌ على حُبِّ الهوى والشّهوات والدّنيا، وهي تميل لفعل ما يُريحها، وترك كلّ ما يُتعبها، ولكن هذا هو الاختبار، فتعب النفس في الدّنيا سيأتي بالثّمار الحسنة في الآخرة، أمّا اتّباعها ومنحها ما يُرضيها لا يورث كسب الحسنات، بل قد يؤدي إلى الهلاك.
ومثلاً إمساك اللّسان عند الغضب جهاد للنّفس كذلك، وعدم أذيّة الآخرين باللّسان بكثرة الجدال، والنّميمة، أو الاستغابة ، والاستهزاء، كلّها أمور تدخل في جهاد النّفس، فقد يمنع الإنسان نفسه من البوح بها أو لا تمنعها، وقد يمنع نفسه من الدّخول في المشاكل أو قد لا يكبح غضبه ويعامل به النّاس، وهذا ينافي جهاد النّفس، وقد قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في جهاد النّفس وقت الغضب: (ليسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّدِيدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ)، فلا بد للإنسان أن يسعى لمجاهدة نفسه حتى يُرضي الله -تعالى-، فالصبر بحدّ ذاته عبادة.
الابتعاد عن المعاصي وترك الشهوات
إنَّ النّفس مجبولةٌ على حبّ الشّهوات والرّاحة، والالتزام بالطّاعات وترك المعاصي من الأمور التي تحتاج لجهاد النّفس لتحقيقها، قال الله -تعالى- مادحاً الفئة التي تُفضّل الانشغال بطاعة الله -تعالى- بدلاً عن الانشغال بالدّنيا: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّـهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ* رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ* لِيَجْزِيَهُمُ اللَّـهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّـهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، وقد يقوم الإنسان بالطّاعات تقرباً لله -تعالى- وتطوّعاً، ولكن الامتناع عن فعل المعاصي واجتنابها التي اعتاد الإنسان على ممارستها هو أمرٌ ليس بالسّهل، لذلك كان من أحب الأعمال وأفضلها التي تُقرّب الإنسان من خالقه -سبحانه وتعالى- هو اجتناب نواهيه، وقد سمّاها الشّرع بالجهاد لأنّ فيها الكثير من المشقّة، فالجهاد من أصعب وأقوى العبادات.
وجهاد النّفس على ترك المعاصي وفعل الطّاعات هو الجهاد الأكمل، حيث إنّ الإنسان يبذل جهده في الطاعات ومخالفة الأهواءِ والمشاقّ البدنيّة، وبالمقابل يوقف نفسه عن الانشغال بما سِوى العبادة ، قال الله -عز وجل-: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)، وجاء هذا الوعد لمن يسعى في مجاهدة نفسه، فعلى الإنسان أن يبقى متيقّظاً منتبهاً لنفسه الأمّارة بالسّوء، ويحذر من وساوس الشّيطان، فإذا نجح بذلك نال رضا الله -تعالى- وفاز بجنّته، ومجاهدة النّفس كالجهاد في سبيل الله -تعالى- الذي يربط الإنسان بربّه، فالرّباط هو الالتزام، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
ولتحقيق ذلك لا بد من محاسبة النّفس باستمرار، فعندما يُحاسب الإنسان نفسه ينتبه على تصرّفاته وما صلح أو فسد منها، فيُصلح نفسه ويقوّمها، ويردعها عن الاقتراب مما يُفسدها. وقد حرِص أكثر العلماء على تذكير وحثِّ النّاس على مجاهدة النّفس لترك المعاصي، وذلك لأهميّتها، وقد قال محمد بن كعب القرظي -رحمه الله-: "ما عُبد الله بشيء قط أحب إليه من ترك المعاصي"، وقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "إن أفضل العبادة؛ أداء الفرائض، واجتناب المحارم"، كلّ هذا استناداً لتطبيق وصيّة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- حين قال في حجّة الوداع: (ألَا أُخبِرُكُم بالمؤمِنِ؟ المؤمِنُ مَن أمِنَه الناسُ على أموالِهم وأنفُسِهم، والمسلِمُ مَن سلِمَ الناسُ مِن لسانِه ويدِه، والمجاهدُ مَن جاهَدَ نفسَه في طاعةِ اللهِ، والمهاجرُ مَن هجَرَ الخطايا والذُّنوبَ)..
جِهاد النفس بالعمل الصالح
جهاد النّفس لا بد أن يرتبط بالعمل الصّالح الذي يُورث الأجر العظيم في الدّنيا والآخرة، قال -تعالى-: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّـهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّـهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)، ومعنى الآية أي اجتهدوا في إيصال تعاليم الله -تعالى- للنّاس ونشر الدّين، وحاربوا الشيطان ولا تتّبعوه، فالله -تعالى- "اجتبانا"؛ أيّ اختارنا لنلجأ له، ونثق ونعتمد عليه في أداء هذه المهمّة، ولجهاد النّفس أربعة مراتب، وهي كما يأتي:
- أولا: جهاد النفس على تعلّم أمور الدّين.
- ثانيا: جهاد النفس على العمل والعلم، فلا ينفع العلم فقط، بل لا بد أن يُصاحبه العمل حتى يكون مقبولاً عند الله -تعالى-.
- ثالثا: جهاد النفس على الدّعوة إليه بإخلاص وتعليم أمور الدين لِمن لا يعلم، فكُلُّ مسلم داعٍ، والله -تعالى- أمر المسلمين بالأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، وعدم كتمانِ العلم، وجعل لمُعلّم الدّين ثواباً عظيماً، كما توعّد بالعذاب لِمن يكتم العلم.
- رابعاً: جهاد النفي على الصّبر على مشاقّ الدّعوة إلى الله -تعالى-، وأذى الخلق، فإن تحمّل المسلم ذلك وصبر بُغية رضى الله -تعالى- نال عظيم الأجر والثّواب.
جِهاد النفس بالدّعوة إلى الله وتحمُّل مشاقّها
ذُكر فيما سبق مراتب جهاد النّفس؛ وكان أحدها الدّعوة إلى الله -عزّ وجل- وتحمّلِ مشاقّ طريق الدّعوة إلى الله -تعالى-، حيث إن ذلك الأمر من شأنه أن يُلحق الأذى بالدّاعي إلى الله -تعالى-، ومن النّاس من لا يتقبّل النّصيحة ويستهزئ بمن يقدّمها، فيقومون بالرّد على الدّاعي بما لا يليق به، وهذا أمرٌ صعب الاحتمال على النفس، ولكن المسلم يُجاهد نفسه الأمّارة بالسّوء حتى يؤدي الفرض الذي عليه من الدّعوة، ويُبرّئ نفسه أمام الله -تعالى-، قال الله -عز وجل- في سورة السجدة : (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ).
جِهاد النفس بطلب العِلم
طلب العلم ومدارسته يحتاج من الإنسان أن يتحلّى بخُلُقِ الصبر أيضاً، فالعلم واسعٌ لا يُحصر، والعلم الشّرعي من أفضل ما قد يتعلّمه المسلم، وكل ذلك يحتاج لضبط النّفس، وجهادها على التعلّم، كما أنّ العلم هو الطريق لاكتساب القدرة على الدّعوة إلى الله -تعالى-، والعمل بما يُرضيه، وتحمّل الأذى الذي قد يلحقه في طريق الدّعوة إلى الله -تعالى-، ومن فعل ذلك ابتغاء مرضاة الله -تعالى- نال السّعادة في الدّنيا والآخرة.
جِهاد النّفس وحكمه
جهاد النّفس فيعني مخالفة هواها، وما تحبّه النّفس من الشهوات، وإرغامها على الالتزام بالطّاعات وأوامر الله -عزّ وجل-، وهذا أمر شديد على النّفس التي تميل لحبّ الشّهوات كما ذُكر سابقاً، خاصة إن كانت البيئة التي يعيش بها الإنسان تُشَجِّعُ على الانحلال والانفتاح، وتُسهّل عليه الانخراط بالمعاصي، ففي هذه الحالة يكون جهاد النّفس أعظم وأشدّ، ويشمل جهاد النفس مجاهدة وساوس الشّيطان، وعدم السّماح لها بتزيين ما حرّم الله -تعالى- من الأمور، ويكون الجهاد كذلك بمقاومة أصحاب الظّلم، والبدع، والمُنكرات، ومحاولة تغيير ظُلمهم ومنكراتهم بتطبيق الحقّ.
وقد أجمعت الأُمّة على وجوب مجاهدة النّفس، وعدم تركها لاتّباع هواها وما تُحب، والحرص على اتّباعها أوامر الله -تعالى- مهما كانت الظّروف المحيطة بالإنسان، وذلك لعدّة أسباب، نذكرها فيما يأتي:
- جهاد النّفس والابتعاد عن الشّهوات المحرّمة هو فرض عين على كلّ مسلم.
- النّفس هي أكبر عدوّ للإنسان، لذلك لا بد من عدم الانجرار وراء الشّهوات، حتّى يصل الإنسان إلى السّعادة الأبديّة ويفوز برضوان الله -تعالى-.
- اتّباع النّفس وأهوائها وشهواتها يوصل إلى الهلاك في الدّنيا والآخرة.
أهمية جهاد النفس
إنّ لمجاهدة النّفس أهميّة عظيمة في الإسلام، نذكرها فيما يأتي:
- مجاهدة النّفس هي من أعظم الأعمال، لأنّ الإنسان إن لم يُجاهد نفسه التي في داخله لن يستطيع مقاومة عدوّه في الخارج، فقوّة الإنسان تكمن في نفسه، فإن صلُحت نفسه استطاع مواجهة الأعداء.
- النّفس المؤمنة التي ترجو رحمة الله -تعالى- تسعى لجهاد النّفس حتى تُحقّق هذا الهدف.
- ارتباط جهاد النّفس بالهداية بشكل مباشر، فكلّما جاهد الإنسان نفسه ازداد تقرّباً من الله -تعالى-.
- جهاد النّفس من أعظم الجهاد، لأنّه لا يكون إلا بإيقاف ومنع النّفس عن فعلٍ ما، أو إجبارها على فعل ما، وقد يمتنع الإنسان عن فعل شيء مباح مقابل مدح النّاس له، فهذا من الجهاد، أو قد يكون المباح الذي امتنع عنه لا يرغب به ابتداءً، فهذا لا يُعدّ جهاد نفس.
- جهاد النّفس يُكسب الإنسان تأييد الله -تعالى- وتوفيقه، قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّـهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
- عدم مجاهدة النّفس يتسبّب في إحكامِ سيطرة الشّيطان ووسوسته على الإنسان، فيبتعد عن طريق الصّواب ويفعل ما لا يُرضي الله -تعالى-.
- مجاهدة النّفس هي الوقود الذي يُغذِّي الدّعاة إلى الله -تعالى-، فلولا الدّافع النّفسي المُكتسب من مجاهدة النّفس لَما استطاع الدّعاة الاستمرار في طريق الدّعوة الذي تحفّه الصّعاب.
- جهاد النّفس أعظم من جهاد العدوّ، وذلك لأنّ النّفس تدعو إلى كلّ أمر مرغوب ومحبوب، والمقصود بقوله -تعالى- في سورة الحج : (وَجَاهِدُوا فِي اللَّـهِ حَقَّ جِهَادِهِ)، أي مجاهدة النّفس واتّباع الهوى، وذلك بناءً وقال ذلك ابن مبارك -رحمه الله-.