كيفية تزكية النفس
تزكية النفس
اهتمّ العلماء والعارفون بالله بمسألة تزكية النفس، وطرائق تحصيلها، ذلك أنّ النّفس البشرية متقلّبة في مقاماتٍ عدّةٍ، وهي بحاجة إلى ما يزكّيها ويطهّرها، ويحميها من دنس السّقوط في مراتبٍ سفليةٍ لا تليق بالمسلم، ولا تؤهّله للنجاة يوم لقاء الله تعالى، وقد كانت مهمّة العناية النّفس وتزكيتها محطّ اهتمام النبي صلّى الله عليه وسلّم، إذ كان على جليل قدْره وقربه من الله- يدعو ربّه -جلّ وعلا- بالثبات؛ فكان ممّا يقوله ويستعيذ بالله منه: (اللَّهمَّ مُصرِّفَ القلوبِ صرِّف قلوبَنا على طاعتِكَ)، وكان يدعو ربّه بزكاة نفسه؛ فيقول: (اللهمَّ آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خيرُ مَن زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها)، ولمّا كان المسلم مطالبٌ بتحرّي وسائل الثبات، ومعنيٌّ بتحصيل طرائق التّزكية؛ فقد أسهب العلماء ببيان هذه الوسائل والطرائق أملاً في عون المسلم على تحقيق هذه المرتبة العليّة بالنّفس .
كيفية تزكية النفس
لمّا كانت تزكية النفس والتّرقي فيها نحو إشراقات الرّوح مطلبٌ للعارفين بالله؛ كان لا بدّ من الوقوف على أهمّ الوسائل لتزكية النفس ، وقد استطرد العلماء في هذا الباب لتشعّبه وتعدّد طرقه، ولعلّ أهمّ هذه الوسائل:
- أنْ يعرف المسلم أصناف النفس ومراتبها، ولقد بيّن المولى -سبحانه- ذلك في كتابه العزيز على مراتبٍ ثلاثٍ:
- النفس الأمّارة بالسّوء، وهي التي تأمر صاحبها بالانغماس في الملذّات والشهوات، وتغريه بكلّ معصية وبعد عن الله تعالى، قال الله سبحانه: (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ).
- النفس اللوامة، وهي التي تقع بالسّوء لكنّها لا تنقاد إليه، ولا تنغمس فيه كالنّفس الأمارة بالسّوء، بل تعود وتؤوب، وتندم وترجع؛ فهي متقلّبة بين الوقوع في المعصية والتوبة منها، قال الله عزّ وجلّ: (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ).
- النفس المطمئنة: وهي أعلى درجات النّفس وأرقاها، وهي النّفس التي تطمئنّ إلى ذكر الله تعالى؛ فأطاعت وانقادت لأوامره، واستسلمت لأحكامه، وتاقت إلى رضوانه، وهي التي يُنادى عليها عند خروج الروح: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً*فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي).
- على المسلم أنْ يعترف بتقصير نفسه وعيوبها؛ ففي ذلك عونٌ على تحديد مكامن ضعفها، وإنّ الامتناع عن ذلك يجعل الإنسان يظنّ أنّه خالٍ من العيوب، ومبرءٌ من النقص؛ فلا يُقبلُ على تزكية نفسه، ولا يتطلّع إلى إصلاحها.
- مجاهدة النّفس ميدان رحْبٌ لتزكيتها، وقودِها إلى مدارج الكمال وميدان الهداية ، حيث أكّد المولى -سبحانه- على أهمية وفضل مجاهدة النّفس؛ فقال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
- الحرص على تنمية الأخلاق الحسنة والمسالك الحميدة، وتعهّد النّفس بترسيخ هذه القيم الأخلاقية في واقعها حتى تصير أمراً معتاداً، وقد حثّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- على تدريب النّفس وتطويعها على محاسن الأخلاق؛ فقال: (إنما العلمُ بالتَّعلُّمِ، وإنّما الحِلمُ بالتَّحلُّمِ).
- إظهار الافتقار في جَنْب الله، والانكسار بين يديه -سبحانه- من أهمّ الأسباب المُعينة على تزكية النّفس؛ فيستشعر المسلم حاجته لرحمة الله، مع ملازمة الدّعاء ، والاستعاذة بالله من شرور النّفس، فقد جاء أنّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- علّم رجلاً بعد إسلامه أن يقول: (اللَّهمَّ ألهِمني رشدي وأعذني من شرِّ نفسي)، كما أنّ إطلاق اللسان بذكر الله -عزّ وجلّ- خير طريق لتزكية النّفس، وانشراح الصدر، وطمأنينة القلب ، وصدق الله إذ يقول: (الَّذينَ آمَنوا وَتَطمَئِنُّ قُلوبُهُم بِذِكرِ اللَّهِ أَلا بِذِكرِ اللَّهِ تَطمَئِنُّ القُلوبُ)، والإقبال على تلاوة القرآن الكريم، وتدبّره من أعظم وسائل تزكية نفس المسلم، وفي هذا يقول المولى سبحانه: (وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنينَ).
- استحضار لحظات الموت ، ذلك أنّ الآفات الفتّاكة بقلب المسلم منشؤها طول الأمل وحبّ الدنيا، وذكر الموت يقطع تلك الأمراض وأسبابها؛ فيسلم قلب العبد من الحسد ، والغشّ، والجشع، وغيرها، ثمّ تتزكّى نفسه ويصلح قلبه.
- ومن الأمور التي تُسهم بشكلٍ كبيرٍ في تزكية النّفس العناية بسلامتها من الغلّ والحسد ، وتعويدها على محبة الخلق والنّصح لكلّ مسلمٍ، وإفشاء السلام، ونشر الأمن بينهم، وطلاقة الوجه وبثّ البِشر في حياتهم، والإعراض عن جاهلهم وقبول أعذارهم، وترويض النّفس على ترك المراء والجدال مع من لا رجاء في انصياعه للحقّ، كما أنّ مجالسة الأخيار، والتّقرّب من الصالحين ، ومطالعة أخبار وسِيَرهم من طرائق التّزكية الناجحة.
تعريف التزكية
الوقوف على معنى التّزكية عند أهل اللغة يُقرّب إلى الأفهام دلالاته الاصطلاحية، ذلك أنّ استخدامات العرب للمصطلحات مرجعها إلى أصل دلالتها في اللغة، ومن هنا يجد الباحث في المعاجم أنّ:
- التزكية في اللغة: مصدر من الفعل الثلاثي زكى، وتستخدم للدلالة على التّطهير والنّماء، فيقال: زكى الشيء؛ أي: طهّره، وأصلحه، وزكّى نفسه: أصلحها ونسبها إلى الطّهر، وتزكّى الرّجل: صار فاضلاً عادلاً، واهتدى وصلح، وأرضٌ زكّيةٌ بمعنى طيّبةٌ سمينةٌ، وقد وردت كثير من النصوص الشّرعية تحمل هذه المعاني.
- التزكية في الاصطلاح الشرعي: أَصل استخدامات التّزكية شرعاً متّفقٌ مع دلالاتها اللغوية من حيث النّماء والبركة والطُّهر، ومنه فريضة الزّكاة؛ لأنّ البركة ترجى في نفس ومال مخرجها إلى مستحقّيها، ومن هذا الباب جاء الوصف بالتّزكية لمن تحرّى ما فيه تطهير له من أدران المعاصي؛ فاستحقّ الأوصاف المحمودة في الدنيا، وطمِع بسبب ذلك بالأجر والمثوبة يوم لقاء الله سبحانه، وتزكية النّفس خلُق مكتسب ، لذا امتدح المولى -عزّ وجلّ- السّاعين نحو تزكية نفوسهم؛ فقال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)،، وهذا لا يمنع من نسبة الفعل لله -سبحانه- فهو الفاعل لذلك على الحقيقة، وفعل الإنسان له ناتج عن منح الله للإنسان إرادة الفعل والقدرة عليه، حيث قال الله سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا).