كيف كرم الله الإنسان
الغاية من خلق الإنسان
ليس من نافلة القول الإشارة في بداية الموضوع إلى الغاية التي خلق الله -سبحانه- من أجلها الإنسان، والتي كانت السبب في تكريم الله له، وفي هذا المقام يمكن القول أنّ أوّل هدفٍ من خلق الإنسان هي تحقيق معرفة الله سبحانه، ويمكن للإنسان تحقيق الكثير من الجوانب من هذه المعرفة من خلال استشراف آفاق الكون الذي يعيش في جنباته، واستكشاف أسراره وما أبدعه الخالق فيه، وفي استقراءٍ سريعٍ لما احتواه الفضاء الكوني من مجرّاتٍ ونجومٍ وجد علماء الفلك أنّ الكون يحتوي على ملايين المجرّات، في كلّ مجرةٍ من تلك الملايين ملايين أخرى من النجوم، فضلاً عمّا بينهما من عجائب تتعدّى قدرة الإنسان بالكشف الحسّي عنها، كلّ ذلك وغيره من عجائب الله في الكون يعطي دلالةً على أنّ خلق الإنسان وراءه غايةً عظيمةً، ويمكن تلخيصها في العبادة عبر معرفة الله سبحانه.
وفي سبيل تسهيل مهمّة معرفة الله على البشرية فقد رفع الله -تعالى- منزلة الخلق عن حدود الأكل والشرب والتناسل التي يشترك فيها مع البهائم والحيوانات، بل أراده أعلى شأناً وأقدر عقلاً على إدراك عظمة الخالق من خلال تحقيق المعرفة، ولذلك فقد شنّع القرآن الكريم على تلك الفئة التي رضيت لأنفسها التردّي إلى مستوى البهيمية؛ فقال سبحانه: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)، ويتّفق العقلاء من البشر على أنّ صانع الشيء هو الأقدر على معرفة غايات ومقاصد صنعه، ولذلك فإنّ المولى -تبارك وتعالى- هو خالق البشرية وهو الأعلم والأحكم في ذلك.
تكريم الله للإنسان
مظاهر تكريم الله -سبحانه- للإنسان تظهر في وجوهٍ مختلفةٍ، وقد أفاض أهل العلم قديماً وحديثاً ببيان مظاهر تكريم الله للإنسان، ويمكن إجمال أهم مظاهر التكريم الإلهي للإنسان بما هو آتٍ:
- أكرم الله الإنسان ابتداءً بأنْ خلقه وأوجده من العدم، وولطيفة التكريم بالخلق تظهر في أنّ الله -تعالى- جعل إخراج الإنسان من العدم إخراجٌ فيه تشريفٌ وتكريمٌ؛ حيث كان الخلق متزامناً مع تكليفه بمهمّة عمارة الأرض، قال الله عزّ وجلّ: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً).
- يظهر التكريم الإلهي من خلال أمر الله -سبحانه- للملائكة بالسجود لأول البشر آدم عليه السلام، يقول المولى -تبارك وتعالى- حكايةً عن موقف الشيطان من أمره -سبحانه- بالسجود لآدم: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا).
- كرّم الله -تعالى- الإنسان بأنْ جمّل صورته وأحسن خِلْقته، إذ لا يوجد جنسٌ في المخلوقات أحسن منه صورةً؛ مصداقاً لقول الله سبحانه: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)، ثمّ كرمّه بأنْ نفخ فيه من روحه على وجه الاختصاص؛ فلم ينل هذا الفضل أحد سوى الإنسان، قال الله عزّ وجلّ: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ).
- خلافاً للمخلوقات الأخرى فقد سخّر الله للإنسان ما في الأرض، ويسّر له مأكله ومشربه، ومتّعه بسائر الطيبات، وطوّع له المراكب ووسائل الانتقال في البرّ والبحر، وفي هذا يقول المولى سبحانه: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)، بل ذهب أهل العلم إلى أنّ الله -سبحانه- قد جعل كثيراً من المخلوقات الأخرى مستخدمةً لتسهيل مهمّة الإنسان في إعمار الكون، وجعلها مسخّرةً بين يديه، بل إنّ كثيراً من علماء الطبيعة يشيرون إلى كون المخلوقات الأخرى ابتداءً من النجوم والأقمار والأرض وما فيها من بحارٍ وجبالٍ ومخلوقاتٍ تشكّل توازناً ضرورياً لاستمرار حياة الإنسان وضمان أداء مهمّته.
- جعل الله خلق الإنسان على الفطرة السليمة، ويعني هذا أنّ الله -تعالى- أودع في تكوينه وركّب فيه إحساساً روحياً من شأنه أنْ يقود خطاه إلى الصراط المستقيم في باب توحيد الله وعبادته، وتحقيقاً لثبات سلامة هذه الفطرة من الزلل أو الخلل، فقد أيّده -سبحانه- بالرسل والأنبياء، وأنزل معهم وحي السماء ليبيّنوا للناس طرق العبادة، وسُبل النجاة، ومنهج الحقّ.
- تجلّى إكرام الله للبشر بأنْ منحهم العقل، بل جعل العقل مناط التكليف، بمعنى أنّه لا تكاليف يخاطبه بها الشرع إنْ لم يكن صاحب عقلٍ سليمٍ، ولمّا رفع التكليف رفع أيضاً المساءلة والحساب عنه؛ فإنه -سبحانه- إذا أخذ ما وهب أسقط ما أوجب، ولم يكن العقل في الإنسان ترفاً أو جمالاً، بل هو منشأ التفكير والتدبّر، وأساسٌ في الإدراك والاستيعاب، ومن خلاله يستشرف الإنسان المقاصد والغايات والدلالات في خطاب الشّرع له، وها هو العقل أصلٌ في مسائل الاجتهاد وتكيّف الخطاب الشرعي مع كلّ جديدٍ، وقد أوثق الله -سبحانه- الصلة بين الحالة الإيمانية بالتفكير والتدبّر، عندما قال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ)، ويذهب الإمام القرطبي -رحمه الله- إلى تأكيد أهمية العقل البشري؛ فيرى أنّ أهمّ مجالات التفضيل الإلهي للإنسان يرجع إلى العقل، على اعتبار أنّه أساس عمارة الأرض وفق مراد الله تعالى.
- من جملة هذه المزايا فقد أضحى الإنسان سيد المخلوقات بما أودع الله -سبحانه- فيه من الخصائص، وبما تكرّم عليه من المزايا، حتى أصبح مهيّئأً لاستقبال الخطاب وصاحب مهمّةٍ وتكليفٍ .
حقوق الإنسان في الإسلام
أعطى الإسلامُ الإنسان من الحقوق ما يضمن له أداء مهمّته في هذه الحياة وفق منهج الله تعالى، وما ينسجم أيضاً مع تكريم الله له، ولعلّ أهمّ ما شرعه الإسلام له من حقوق:
- وجّه الإسلام إلى حُسن اختيار الزوجة ؛ لتكون ذريّتها بعد ذلك ذات نسبٍ طاهرٍ، كما سنّ الإسلام أحكاماً خاصّةً بالجنين وهو في بطن أمّه، ودعا إلى حُسْن اختيار اسمه، وأوجب له الرعاية والنفقة، وكلّ ذلك دلالةٌ على رعاية الإسلام لحقوق الإنسان قبل أنْ يتولّد ويخرج إلى الدنيا.
- حفظ الإسلام للإنسان حقّه في حياةٍ آمنةٍ لا ترويع فيها؛ فجعل نفسه معصومةً ودمه حراماً، قال الله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ)، وفي سبيل ضمان ذلك جعل الاعتداء عليه بالقتل جريمة تستحقّ القصاص، حيث قال سبحانه: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)، وتعدّى حق الإنسان من حدود حفظ نفسه من الهلاك إلى حفظ كرامته الآدمية، حيث حرّم الإسلام الاعتداء المعنوي عليه، مثل: الغيبة ، أو النميمة؛ فقال الله عزّ وجلّ: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ).
- فرض الإسلام للإنسان حقّ التملّك، ونظّم التشريعات والأحكام والحدود التي تضمن له ماله وأملاكه، ومنحه حرية التصرّف في ماله بكلّ وسيلةٍ مباحةٍ.
- ترك الإسلام لغير المسلم حرية اعتقاد ما يؤمن به، بل منع المسلمين من إكراهه أو إجباره على الدخول في الإسلام، قال الله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ).
- توّلتْ التشريعات الإسلامية مسألة تأمين المعاش الكريم للمسلم؛ فأوجبت له النفقة الشرعيّة بأحكامٍ واضحةٍ، وفرضت الزكاة وأوجبتْ الكفّارات، وكفلتْ للمحتاج حاجاته الأساسية من بيت مال المسلمين، كما أولى الإسلام عنايةً فائقةً بحقوق المرأة واليتيم.
- دعا الإسلام إلى إقامة العدل في مسألة أداء الحقوق والوفاء بالواجبات من من غير تمييزٍ لأي سببٍ كان، مثل: الدين واللون، والعرق، وغيرها؛ فقال الله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).