كيف تثبت على التوبة
كيفيّة الثبات على التوبة
يتحقّق الثبات على التوبة للعبد المُسلم بطُرق عدّة، بيان البعض منها آتياً:
- إخلاص النيّة أوّلاً، ثمّ عَقْد النيّة والعَزْم على عدم العودة إلى الذَّنب مُجدَّداً؛ إذ إنّ عَقْد القلب على التوبة، وتَرْك التردُّد مِمّا يُعين المُسلم على الثبات؛ فلا يصلح من التائب أن يتقلّب حاله بين التوبة والمعصية، فيكون تائباً في ليلةٍ، ومُصِرّاً على الذَّنب في ليلةٍ أخرى؛ لأنّ الثبات على التوبة يقتضي لزومَها من غير تردُّدٍ أو تقلُّبٍ، ومِمّا يُعين المُسلم على ذلك؛ توكُّله على رَبّه حَقّ التوكُّل، مع لزوم الطاعات والأعمال الصالحة، كالإكثار من الصيام، وغير ذلك، واتِّباع الوسائل التي تَشحذ العزيمة، وتزيد الإقبال على الله -سُبحانه-.
- المُداومة على قراءة القرآن الكريم، والحرص على العمل بما جاء فيه، فإن لم يتمكّن العبد من قراءة القرآن بنفسه؛ لضِيقٍ في الوقت، أو غير ذلك، فإنّه يستمع إليه، أو يطلب من أحدٍ ما تلاوة آياتٍ من القرآن عليه، مع حرصه على مُجاهَدة نفسه في تدبُّر تلك الآيات، والعمل بها؛ ليثبت بذلك على التوبة؛ قال -تعالى-: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلً).
- الإكثار من الأعمال الصالحة، والاستزادة من الطاعات؛ من فرائض، ونوافل ؛ فالأعمال الصالحة تنغرس في القلوب، وتزيدها إيماناً، وثباتاً، وقراراً.
- الإكثار من ذِكْر الله ؛ إذ ينبغي على المسلم أن يجعل لسانه دائماً رَطِبَاً بذِكْر ربّه؛ لأنّ ذلك مِمّا يُعينه على الثبات في المواقف الحَرِجة، والظروف الصعبة التي تتطلّب إيماناً راسِخاً؛ قال -تعالى-: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِذا لَقيتُم فِئَةً فَاثبُتوا وَاذكُرُوا اللَّـهَ كَثيرًا لَعَلَّكُم تُفلِحونَ).
- الدعاء؛ وهو من أنفع الوسائل للزوم التوبة، والتوفيق إليها، فالصالحون حريصون على التوجُّه إلى ربّهم بالدعاء، والمُناجاة، ومن الأدعية قَوْله -تعالى-: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)، وقد كان النبيّ -عليه الصلاة والسلام- حريصاً على الدعاء كوسيلةٍ لتثبيت القلوب على الدِّين، ومُلازمة التوبة، فكان يدعو قائلاً: (يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ).
- الابتعاد عن أسباب المعاصي، وتجنُّب سُبُل الوصول إليها، ومِمّا ينبغي على المُسلم التائب اجتنابه رُفقاء السُّوء؛ حتى تتغيّر بيئته فتصبح طاهرةً نقيّةً.
- تذكُّر الموت؛ بأن يجعل المُسلم الموت ونهاية الأَجَل نُصْب عينَيه؛ فيحمله ذلك على التفكُّر في ما اقترفه من الذنوب في حياته، ويبادر إلى التحلُّل والتوبة منها، ويُكثر من الاستغفار والإنابة، ويعلم أنّ الفضل في توبته مَردّه إلى توفيق رَبّه، فيشكرُه على ذلك، ويتفكّر في ما أعدَّه الله للصالحين المُخبِتين من ثوابٍ في الآخرة، الأمر الذي يحمله على الإقبال على الطاعات؛ للاستزادة من الحَسَنات، ويتفكّر في ما أعدَّه الله للمُسيئين من عقابٍ، الأمر الذي يحمله على تَرك المعاصي، والابتعاد عن السيِِّئات، وتذكُّر حال المُفلِسين يوم القيامة؛ أولئك الذين يأخذ الله من حَسَناتهم؛ بسبب ذُنوبهم وعِصيانهم؛ فقد قال النبيّ -عليه الصلاة والسلام- لأصحابه: (أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ).
- استشعار مُراقبة الله -سُبحانه-، وتعظيم خشيته في القلب؛ فإن خَشِيَ المسلم رَبَّه وخاف عقابه، حملَه ذلك على المُسارعة إلى التوبة، بالإضافة إلى تذكير النَّفْس دائماً بفَضْل التوبة عند الله، وأنّ الله يفرح بتوبة عبده فَرَحاً عظيماً، ويُبدّل سيِّئات عباده التائبين إلى حَسَنات.
- مُجالَسة الصالحين والأتقياء، ويُعَدّ ذلك من أفضل ما يستفيده المُسلم في حياته، ولا ينبغي عليه الالتفات إلى وَساوس الشيطان حينما يُثبِّط النَّفْس عن الالتحاق برَكْب الصالحين بدعوى ذنوبها ومَعاصيها، وأنّ مُجالستها الصالحين نِفاقٌ وتكلُّفٌ؛ فقد أخرج الإمام البخاريّ في صحيحه عن أبي مُوسى الأشعريّ -رضي الله عنه- أنّه قال: (قِيلَ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: الرَّجُلُ يُحِبُّ القَوْمَ ولَمَّا يَلْحَقْ بهِمْ؟ قالَ: المَرْءُ مع مَن أحَبَّ)، فرِفْقة الصالحين من نِعَم الله على عباده؛ إذ يَجِدهم عند البلاء والشدّة، ويستعين بهم باللجوء إلى رَبّه، والاستعاذة به من شَرّ الشيطان ووَساوسه، مع التفكُّر في عظيم خَلْقه، وكمال تدبيره؛ فيتحقّق له التحصين من كلّ شَرٍّ وسوءٍ.
- الاعتصام بالله -عزّ وجلّ-، والتوكُّل عليه؛ فاللجوء إلى الله -تعالى- مِمّا يُعين العبد على الإمساك عن شَهوات النَّفْس، ووَساوس الشيطان؛ قال -تعالى-: (وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّـهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
- الحرص على الصلاة، والمُداومة عليها؛ فالمُواظبة عليها من أسباب حِفظ النَّفْس، وتحصينها من الوقوع في المعاصي والذنوب؛ قال الله -عزّ وجلّ-: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ).
- المحافظة على أذكار الصباح والمساء ، والمُداومة عليها؛ إذ إنّها تَقي العبد من وساوس الشيطان الذي يحرص على إيقاعه في المَعاصي والذنوب.
- الاشتغال بالدعوة إلى الله -تعالى-؛ إذ لا يُضيّع الله -عزَّ وجلَّ- مَن كان عاملاً في سبيل دعوته، ونَشْر دِينه، مع الحِرص على الاستزادة من العلم الشرعيّ ، والتفقُّه في الدِّين؛ فذلك مِمّا يزيد الإيمان، ويرفع الدرجات، ويَقِي من الذنوب، والمعاصي، ووَساوس الشيطان.
كيفية التوبة
التوبة شعورٌ بالنَّدَم على ما وَقَع، وتوجُّه إلى الله -تعالى-، وكَفٌّ عن الذنوب، وأداء عملٍ صالحٍ يُحقّق التوبة بالفِعل؛ فالتوبةُ تتضمّن إقبال التائب على الله، ورجوعه إليه، والتزام طاعته؛ فمَن ترك الذَّنب تَرْكاً مُجرَّداً لم يرجع إلى الله -تعالى- فيه لم يكن تائباً؛ إذ لا يكون العاصي تائباً من ذَنبه إلّا برجوعه وإنابته وإقباله على الله -سُبحانه-، إلى جانب تَرك الإصرار على المَعصية، فتكون توبته في قلبه قبل أن ينطق لسانُه بها، ويكون دائم التفكير فيما ذكرَه الله -عزّ وجلّ- من وَصْف الجنّة ، وتفاصيلها، وما وعد به المُطيعين له، ويتذكّر ما وَصف النار به، وما توعّدَ العاصين به، ويُواظب على ذلك إلى أن يقْوى خوفه ورجاؤه، ويدعو الله رغَباً ورَهَباً أن يقبلَ توبتَه، ويَحُطَّ عنه خطاياه، وبذلك يُحقّق التوبة إلى الله -تعالى-؛ بالرجوع إلى ما يُرضيه عنه، مع الابتعاد عمّا لا يُرضيه من الذنوب والمعاصي، والنَّدَم بقلبه، والاستغفار بلسانه، وحِفظ بَدَنه؛ فيتّقي الله في نفسه، ويُزكّيها؛ فهو خير من زكّاها،
وطريق التوبة إلى الله يبدأ بحَمْل النَّفْس على الطاعة والاستقامة ، ثمّ مُجاهدتها في لزوم ذلك، وترغيبها في ما أعدَّه الله للصالحين من عباده من هداية إلى السَّبيل الحقّ؛ قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّـهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)، ويجدر بمَن سلكَ طريق التوبة أن يعلم أنّ رحمة الله واسعةٌ؛ فلا يتسلّل اليأس أو القنوط إلى قلبه؛ ذلك أنّ رحمة الله وغفرانه أعظم من ذنوب العبد وعِصيانه؛ فمَن أقبل على الله بالتوبة، أقبلَ الله عليه برحمته الواسعة، وبَدّل سيِّئاته حَسَنات؛ قال -تعالى-: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَـئِكَ يُبَدِّلُ اللَّـهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)، أمّا مَن اعتقد أنّ الله لا يغفر ذَنْبه فقد ضلَّ عن طريق الحقّ والرُّشْد؛ قال -تعالى- في وَصْف اليأس من رحمة الله: (قالَ وَمَن يَقنَطُ مِن رَحمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضّالّونَ ).
فَضْل الثبات على التوبة
تُعَدّ التوبة من أجلّ العبادات، وأعظم القُربات التي يتقرّب بها المسلم إلى الله -سُبحانه وتعالى-، ويكفي صاحبَها أنّ الله امتدحَه، وأنّه نال مَحبّته؛ قال -سُبحانه وتعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)، والتوبة سببٌ لمغفرة الذنوب، وتبديل السيِّئات إلى حَسَناتٍ، وقد دَلَّ على ذلك قَوْله -تعالى-: (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)، ولهذا يجدر بكلّ مسلمٍ أن يُحاسبَ نفسه، ويُجدّد توبتَه مع الله -عزّ وجلّ- دائماً، ويتجنَّب الوقوع في المعاصي والذنوب.
الأسباب الصارفة عن التوبة
تتعدّد الأسباب التي تصرف العبد عن التوبة والإنابة، والإقبال على الله -عزّ وجلّ-، ويُذكَر منها ما يأتي:
- اتِّباع الهوى؛ فقد يقع العبد في المعاصي ، ويبتعد عن التوبة والاستغفار؛ بسبب غَلَبة الهوى عنده، مع عِلمْه بحُرمة ما يرتكبه من الذنوب والمعاصي، إلّا أنّ غَلَبة الهوى قادَته نحوها دون استشعار مُراقبة الله -سُبحانه-، ومُحاسبته عبادَه على ما قدَّموه في حياتهم الدُّنيا.
- الاغترار بعَفْو الله -تعالى-، وسَعَة رحمته؛ فقد يطمعُ عددٌ من المُذنبين في رحمة الله إن ذُكِّروا بالتوبة والإنابة إليه، ونُصِحوا بالكَفّ عن المعاصي والذنوب، فيعتذرون بسَعَة عَفو الله عن عباده المُذنِبين الخطّائِين، إلّا أنّ ذلك لا ينبغي أن يكون حُجّةً للإقبال على ارتكاب الشهوات المُحرَّمة، والعِناد والمُكابرة؛ فعلى الرغم من أنّ الله -تعالى- رحيمٌ غفورٌ يقبل التوبة من عباده، إلّا أنّه شديد العقاب أيضاً، يتوعّد المُصِرّين على الذنوب والمعاصي بالعذاب، ولا يُرَدّ بَأْسَه عن القوم المُجرمين.
- الغَفلة ، وهي من الأسباب التي تصرف العبد عن التوبة، وتُبعده عن ربّه.
- تسويف التوبة، وتأجيلها، والتي تُعَدّ من الأسباب الرئيسيّة للغفلة؛ مَظنَّة صِغَر السنّ وبُعد الموت، دون العلم بوقت انتهاء الأَجَل؛ قال -سُبحانه وتعالى-: (إِنَّ اللَّـهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).