في أي شهر نزل الوحي على الرسول
في أي شهر نزل الوحي
ابتدأ نزول الوحي على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء بعد مُضيّ ثلاث سنين على عزلته وتعبّده فيه، وتعدّدت آراء المؤرّخين في تحديد الشهر الذي بدأ فيه نزول الوحي، فقيل في شهر ربيع الأول، وقيل في رمضان، والمشهور عند العلماء ورأي المباركفوري في كتابه الرحيق المختوم في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد النظر في الأدلّة؛ أنّه في شهر رمضان المبارك؛ لقول الله -تعالى-: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)، ولقوله -تعالى-: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، وليلة القدر من أعظم ليالي شهر رمضان، وقد قال صاحب الرحيق المختوم إن ذلك يصادف يوم الاثنين الواحد والعشرين من شهر رمضان ليلاً، الموافق لليوم العاشر من شهر أغسطس سنة ستمئة وعشرة للميلاد.
والوحي معجزةٌ، وهو نزول جبريل -عليه السلام- بالقرآن الكريم على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكان -عليه السلام- يعاني شدّةً عند نزول الوحي عليه، فكان يثقل جسمه، لكنّه كان شديد الشوق والحرص في تبليغ ما أُوحي إليه؛ فكان يردّد الآيات خشية نسيانها، فنزل قول الله -تعالى-: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)، وللوحي عدّة هيئاتٍ يتنزّل بها؛ فأحياناً يأتي مثل صلصلة الجرس، فيسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- صوتاً شديداً، وأحياناً يأتيه على هيئة رجل، وقد ثبت أنّه كان يأتيه الوحي وهو مستيقظ، وأوّل ما بُدِئ به الوحي قبل نزول جبريل -عليه السلام- على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرؤيا الصادقة؛ فكان لا يرى النبي -صلى الله عليه وسلم- رؤيا إلّا وتتحقّق كما رآها، وكان ذلك في شهر ربيع الأول؛ أي قبل نزول الوحي في غار حراء بستة أشهرٍ، وتُعتبر هذه الفترة جزءٌ من أجزاء بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
كم كان عمر النبي عند نزول الوحي
بدَأ نزول الوحي على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعمره أربعون سنة، وهو القول المشهور عند العلماء والصحيح عند علماء السيرة والأثر؛ فقد صحّ عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّه قال: (أُنْزِلَ علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو ابنُ أرْبَعِينَ)، ووردت بعض الروايات التي تُخبر أنّ عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما أُنزل عليه الوحي كان ثلاثةً وأربعين عاماً، لكنّها روايات ضعيفة، وتعدّدت آراء العلماء في مدّة بقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة بعد بعثته وقبل الهجرة، فبعضهم قال إنّه مكث عشر سنين، وبعضهم قال خمس عشرة سنة، والمشهور أنّها ثلاث عشرة سنة، واتّفقوا على أنّه أقام بالمدينة بعد الهجرة عشر سنين؛ فقد عاش النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثاً وستّين سنة؛ أربعون سنةً منها قبل نزول الوحي، وثلاثٌ وعشرون سنةً بعد نزول الوحي.
وعند التأمّل يتبيّن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عاش أغلب حياته قبل نزول الوحي عليه؛ فحياته كلها ثلاثٌ وستون سنة، مضَت منها أربعون سنة في الإعداد والتدريب لحمل هذه الأمانة العظيمة، وثلاث وعشرون سنة لحصول التغيّر العظيم في حياة الناس كافة، فكل هذه الفترة الطويلة من الإعداد والتدريب من الله -سبحانه وتعالى- ترشدنا إلى حكمةٍ إلهيةٍ وسنةٍ كونيةٍ من سنن الله في التغيير والإصلاح؛ وهي التدرّج وعدم التسرّع في التربية، والصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالتغيير يحتاج إلى وقتٍ طويلٍ وجهدٍ كبيرٍ وإعدادٍ لمن سيحمل همّ الأمة الإسلامية.
أحداث نزول الوحي
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخلو في غار حراء متصلاً بالله -تعالى- وحده؛ وهو جبلٌ قريبٌ من مكة وبعيدٌ عن الناس، فقد كان يتعبّد فيه اللّيالي الطويلة، ويأخذ معه الطعام، وحين ينفذ يذهب إلى زوجته خديجة -رضي الله عنها- فيتزوّد ويعود، حتى نزل عليه الحقّ من الله -سبحانه وتعالى-، ففي يومٍ من الأيام كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قائماً في غار حراء، فنزل عليه جبريل -عليه السلام- وبشّره بأنّه رسول الله إلى أهل الأرض كافّة، وقال له: "اقرأ"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما أنَا بقَارِئٍ)؛ فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أُميّاً لا يجيد القراءة والكتابة.
فضمّه جبريل -عليه السلام- ثم أرسله وقال له: اقرأ، فردّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: (ما أنَا بقَارِئٍ)، فضمه جبريل -عليه السلام- مرّةً أخرى حتى بلغ منه الجهد ثمّ أرسله، وقال له: اقرأ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما أنَا بقَارِئٍ)، فأخذه جبريل -عليه السلام- وضمّه مرّةً ثالثةً ثم أرسله وقال له: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)، فرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى زوجته فزعاً يرتجف فؤاده من شدّة ما نزل به وقال لها: (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي)، فوضعت السيدة خديجة -رضي الله عنها- عليه ثوباً حتى ذهب عنه الفزع.
وعندما نزل جبريل -عليه السلام- على النبي -صلى الله عليه وسلم- في أوّل مرةٍ ضمّه ثلاث مرات حتى رأى الموت، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند نزول الوحي عليه يتصبّب جبينه عرقاً في اليوم شديد البرودة، وتجثوا ناقته حتى يصل عُنقها للأرض من شدّة التنزيل؛ فالعِلم والرسالة تحتاج إلى مشقّةٍ وصبرٍ وتحمّلٍ للتعب، وأوّل ما أُنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء من القرآن الكريم؛ آياتٌ كريمةٌ من سورة العلق تُرشدنا وتدلّنا على الرحمة والنعمة الأولى على عباده، فأخبرنا الله -تعالى- أنّه بدأ خلق الإنسان من علقةٍ وأكرمه بالعلم؛ فالعلم هي الميّزة التي امتاز بها سيدنا آدم -عليه السلام- على الملائكة لحمل هذه الرسالة العظيمة وإيصالها للناس كافة.